[تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله)]
قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:٤٠]، يخاطب الله سبحانه هؤلاء الكافرين المشركين الذين عبدوا غير الله سبحانه وكادوا للمؤمنين وأرادوا خداعهم وعمل الحيل لإهلاكهم وإن كانوا هم الذين يهلكون بكفرهم وبحيلهم وبمكرهم بالمؤمنين فإن الله يهلكهم يوماً من الأيام.
يقول لهؤلاء: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [فاطر:٤٠]، وشركاءكم منصوبة على المفعولية للفعل رأى ومعناه: أخبروني عن {شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [فاطر:٤٠].
وفيها قراءات: قراءة الجمهور {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} [فاطر:٤٠]، ويقرؤها نافع وأبو جعفر بالتسهيل، وذكرنا أن الأجود عند العرب كما يقول الخليل: أنهم إذا التقت همزتان يخففون إحداهما، ومن هذا الباب وقع التسهيل هنا، وكما ذكرنا أنه وجد التسهيل في قراءة حفص عند قوله: (أأعجمي وعربي) وهو من هذا الباب أيضاً؛ فإنه إذا التقت همزتان فإن العرب تحذف الثانية منهما أو تقلبها ألفاً كأن يقول: أعجمي أو آعجمي وعربي على قراءات فيها.
وكذلك هنا {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} [فاطر:٤٠]، هذه قراءة نافع وأبو جعفر ويقرؤها الكسائي (قل أريتم) وإذا قرأ الأزرق وورش {قُلْ اَرَأَيْتُمْ} [فاطر:٤٠]، فإنه ينقل الهمزة الأولى على طريقته، وأيضاً هناك قراءة أخرى للأزرق يمد مداً طويلاً (قل ارآيتم شركاءكم) فيمدها وينقل الهمزة.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [فاطر:٤٠]، أي: أخبروني عن هؤلاء الشركاء الذين عبدتموهم من دون الله وطلبتم منهم ما لا يطلب إلا من الله {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر:٤٠]، إذاً: {أَرَأَيْتُمْ} [فاطر:٤٠]، الأولى معناها: أخبروني عن هؤلاء، و {أَرُونِي} [فاطر:٤٠]، أي: اجعلوني أنظر وأبصر إلى هذا الشيء الذي خلقته هذه الآلهة من دون الله؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر:٤٠]، أي هل لهم شراكة في السماوات مع الله سبحانه أخبروني عن ذلك؟ وقد قال إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في محاجته ومناظرته للنمرود كلمة عظيمة أبهته بها حين قال لقومه: إنه الرب الذي يستحق العبادة من دون الله، قال الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:٢٥٨] يعني: لكونه قد أوتي الملك {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨]، قال النمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨]، أي: وأنا أيضاً أحيي وأميت أحكم على اثنين بالإعدام ومن ثم أعفو عن واحد وأقتل الثاني إذاً: أحييت هذا الإنسان، وأمت هذا الإنسان، وهذا كلام لا يقبله إنسان عاقل.
لذلك إبراهيم أضرب عن هذا الكلام الفارغ الذي يقوله هذا الإنسان، وقال له شيئاً آخر لا يقدر أن يجادل فيه فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:٢٥٨].
فالله عز وجل لا شريك له سبحانه لا في الأرض ولا في السماء {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:٤٠]، أم بمعنى: بل (ءآتيناهم) أي: أعطيناهم كتاباً من عندنا {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:٤٠]، أي: فهم على ثقة من هذا الشيء، وعلى بصيرة فيما يقولون ويفعلون ويعبدون الأصنام والأحجار، فهل هم على بينة من هذا الذي يقولونه ويزعمونه؟ وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم وحمزة وخلف {عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:٤٠]، بالإفراد وباقي القراء يقرءون (فهم على بينات منه) بالجمع.
وإذا وقف ابن كثير وأبو عمرو عليها فإنهما يقفان بالهاء (فهم على بينه) وباقي من يقرؤها بالإفراد يقف بالتاء (فهم على بينة) ولذلك تجدها مكتوبة في المصحف بالتاء في آخرها.
{بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:٤٠]، أي: اضرب عن هذا الذي يقولون، فإن هؤلاء في غرور فهم يعد بعضهم بعضاً خداعاً وتمويهاً وغروراً زائلاً لا يدوم أبداً، فيقول بعضهم لبعض لا يوجد جنة ولا نار {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤]، فهم في غرور، والغرور: هو الشيء الزائل، فكلامهم كلام فارغ لا قيمة له.
وهذا الأحمق الذي يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:٣٠] أي: النار: فقال: أنا أدفع عشرة من هؤلاء وعليكم الباقي، فهذا المغرور الأحمق أين قوته التي يستطيع بها دفع ملك واحد حتى يقول: أدفع عشرة، وقد كان يلقب بأبي الأشدين ويقول: سأقف على باب النار أسده بكتفي حتى لا يدخل أحد النار، إنه يظن أن النار زنزانة كزنازين الدنيا سيضع يديه عليها فيمنع الناس من الدخول فيها ولم يدر أنها عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى.
فإنه سيؤتى بهذه النار لها سبعون ألف زمام، والزمام: هو المكان الذي يمسك به، على كل زمام سبعون ألف ملك من ملائكة الله عز وجل، فيأتون بها إلى حيث يشاء الله سبحانه وتعالى، (ويخرج عنق من النار)، ويقول: وكلت بالجبارين، وكلت بالمتكبرين، وكلت بالمصورين فيخطف هؤلاء من الموقف إلى نار الجحيم والعياذ بالله، وكذلك أبو جهل ذكرنا أنه كان يقول: إن محمداً -صلوات الله وسلامه عليه- يخوفنا بالزقوم، وهل تخرج شجرة في النار؟ فيسخر من شجرة الزقوم، والله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:٤٠].
وهكذا هم أهل الظلم في غرور وفي باطل وخيبة وفي خسران يمني بعضهم بعضاً، ويضحك بعضهم على بعض حتى تأتي الطامة الكبرى على الجميع فلا يقدرون على الهرب، ولذلك يقول الله عن المستكبرين هؤلاء وهم في النار: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس:٥٤]، أي: خافوا من الضعفاء الذين خدعوهم في الدنيا أن يسمعوهم وهم يقولون: يا رب ندمنا، فيقولون لهم: لماذا أغريتمونا في الدنيا؟ فأسروا الندامة عن أتباعهم وقالوا بينهم وبين ربهم يا رب ندمنا فلم تنفعهم توبة، ولم ينفعهم ندم، وقد ضيعوا أعمارهم في كفر وغرور.
وقد كان رجل من هؤلاء الكفار إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله، ويقرأ عليهم القرآن، ثم يقوم يأتي هذا الرجل ويجلس في مكان النبي صلى الله عليه وسلم، ويحكي عن الأسكندر، وعن كسرى وقيصر، وعن الروم والفرس ثم يقول: أينا أحسن حديثاً أنا أم هو؟ يظن أنه بهذه الخيبة أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، وكلهم كانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق وإن كانوا لا يتبعونه حسداً للنبي صلى الله عليه وسلم، واغتراراً بالدنيا، ويعرفون أن هذا الرجل كذاب يقول كلاماً فارغاً، ويحكي حكايات وقصصاً لا غير، فهم يعتقدون أن ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم حق، ولكنهم يجحدون، {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣].
{إِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:٣٣]، إن الله عز وجل يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ويخبره أنهم لا يعتقدون أنه كذاب، وأن مرادهم من قولهم كذاب شيء فظيع وهو جحد آيات الله سبحانه، وجحد الشيء هو الإقرار به في النفس مع جحده باللسان فيقره في نفسه، وينكره بلسانه، مثاله: أن يأخذ إنسان من آخر متاعاً أو نحوه، ثم يقول ما أخذت منك فالجاحد مستيقن في نفسه أنه كذاب ويعلم أنه أخذ الشيء ثم هو ينكر بلسانه، كذلك {الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣]، فهم مستيقنون بها في أنفسهم ولكن الذي يظهر على ألسنتهم هو الإنكار.
فقد قال بعض الظلمة لبعض سنغلب محمداً صلى الله عليه وسلم ونوثقه أو سننفيه خارج البلد أو نقتله، يعد بعضهم بعضاً بأشياء هي غرور في حقيقتها فلم يقدروا على شيء من ذلك، وقد قال له ربه سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧].