للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تسخير الأرض للإنسان وبسطها لهم آية على توحيد الإلوهية]

قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:٦٤].

هنا يذكر الله بألوهيته سبحانه وتعالى وأنه المستحق للعبادة؛ لأنه هو الذي يخلق وهو الذي يجعل لكم ذلك قال تعالى: (جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا) أي: وطأ لكم الأرض فجعلها لكم موطأة تستقرون عليها، وقال تعالى عن إنعامه بالأرض للعباد في سورة المرسلات: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:٢٥ - ٢٦].

أي: جعل الأرض تقبل العباد، فهم يعيشون فوقها، فإذا ماتوا دفنوا بداخلها فتقبلهم الأرض، ولو شاء الله عز وجل ما جعلها تقبلهم، ولقد أرانا الله آياته في ذلك، وذلك لما قتل رجال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من المؤمنين ثم دفنوه فإذا بالأرض تلفظه، فقالوا: لعل أحداً من أعدائنا أخرجه، فبعثوا غلمانهم يحرسونه، فإذا بهم يدفنونه بالنهار، وإذا بالأرض تلفظه بالليل، فقالوا: لعل غلماننا قصروا، أو هم الذين عملوا هذا، فحرسوه بأنفسهم، فوجدوا الأرض تلفظه ثلاث مرات، يدفنونه في قبر ويعمقون له الأرض فيصبحون وهو على ظهر الأرض لم تقبله، فلما تعجب الصحابة من ذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأرض لا تقبل شبراً منه)، ومع أن الكفار كلهم يدفنون في الأرض فتأخذهم وتقبلهم، إلا أن الله أراد أن يجعل تلك القصة عظة وعبرة للناس؛ لئلا يقتل بعضهم بعضاً.

فهذه الأرض نعمة من الله، تجمعكم فوقها وتستقرون عليها، ومن ذهب إلى القمر فإنه يرى نفسه تطير فوق سطح القمر؛ فلا توجد أرضية هناك، فالإنسان هناك يظل طائراً ولا يستطيع المشي، إلا إن ثقل بشيء يعينه على النزول على سطح القمر، أما الأرض فالإنسان ليس محتاجاً لهذا الشيء؛ إذ قوة الجاذبية تجذبه ليبقى على الأرض، وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى لا يفكر الإنسان فيها، ولهذا يقول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا) أي: تستقرون عليها، فالأرض تدور، وهذا الدوران يجعل اليوم أربعاً وعشرين ساعة ومنه يأتي الليل والنهار، ولو شاء الله لثبتها، ولو شاء لشعرتم بدوران هذه الأرض، وانظر عندما يركب إنسان أرجوحة تلف به فإنه يشعر بدوران في رأسه، والأرض تدور بك أسرع من ذلك بكثير، ومع ذلك فأنت لا تشعر بذلك، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، وأيضاً لو أن إنساناً أتى بحجر ولفه على خرقة، ثم صار يلوح بها في الهواء، لطار الحجر مسافة بعيدة، وهنا الأرض تدور دوراناً شديداً ثم لا نرى أحداً يطير من مكانه، وكل هذا بفضل الله وكرمه؛ ولذلك يقول الله تعالى مذكراً بنعمته هذه: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا).

أي: جعلكم تستقرون على هذه الأرض وهي تدور بكم فلا تطيرون فوقها.

وقوله تعالى: (والسماء بناء)، أي: جعل السماء بناءً عظيماً محكماً، وهي سبع سماوات بعضها فوق بعض، ومع ذلك لم نر من تلك السبع إلا السماء الدنيا التي زينها ربنا بمصابيح، ونرى ما تحتها من كواكب وشموس وأقمار، ونسمع عن المجرات الكثيرة التي تتجاوز مائتي مليار مجرة موجودة، وكل مجرة فيها مليارات المليارات من الكواكب، وكل هذا فقط تحت السماء الدنيا، فكيف بالسماء الثانية والثالثة والرابعة؟! وما بين السماء والسماء؟! فالله جعل السماء بناء محكماً، وإذا تدبرنا في السماء الدنيا وأن الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها، وأن الشمس تجري في هذا الكون، بل المجموعة الشمسية كلها تدور حول الشمس في مسير جعله الله عز وجل لها لا تتخلف عنه، فلا يوجد كوكب يقرب عن مكانه أو يبعد عنه، بل كل شيء ثابت في المسار الذي جعله الله عز وجل له، وهذا هو إحكام الله سبحانه وتعالى، ولقد قال جل في علاه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:٤٧]، أي: بناها بقوته سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)، أي: أن الله يوسع هذا الكون، وهذا هو الذي اكتشفه الخبراء حديثاً، ومع ذلك فكل شيء في مداره، وتتحرك النجوم من مكان إلى مكان بنظام دقيق، وهذا كله يدبره الخالق سبحانه وتعالى، والذي بناها فأحكم بناءها وجعل فيها طرقاً ومسارات هو الله الخالق العظيم سبحانه وتعالى، ولذلك يحث الله عباده أن يتفكروا فيقول: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:١٧ - ٢٠].

<<  <  ج:
ص:  >  >>