[عظمة الله في الأرض]
ثم قال سبحانه: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا} [النمل:٦١]، أي: من الذي جعل الأرض قراراً تستقرون فوقها، مع أنها تدور حول نفسها بسرعة عظيمة جداً في هذا الكون الواسع، وجعلكم لا تشعرون بسرعة سيرها؟ معلوم أن الإنسان عندما يركب وسائل النقل من سيارات وغيرها، أو يركب شيئاً يتحرك عموماً إن لم يكن يمسك نفسه يقع منها، والأرض تتحرك بأسرع من ذلك بكثير، وهي تدور حول نفسها في الكون، ومع ذلك لا يقع الإنسان ولا يستشعر ذلك، فمن الذي جعلها قراراً لهذا الإنسان ليستقر فوقها؟! يقول سبحانه: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً} [النمل:٦١]، أي: شق في جوفها أنهاراً تجري فأجراها، وجعل فيها الماء العذب، وجعل في محيطاتها الماء المالح، وكل ذلك بحكمة من الله سبحانه وتعالى، من الذي صنع ذلك؟ وجعل لهذه الأرض رواسي كما قال سبحانه: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل:٦١]؛ يرى المتأمل فيها قدرة عظيمة لله الخالق سبحانه وتعالى، فالله جعل الأرض قراراً، وجعل خلالها، أي: شق في جوف هذه الأرض، فجعل خلالها أي: بين خللها وشقوقها أنهاراً، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل:٦١]، ترسيها وتثبتها، ومعلوم أن للأرض قشرة سطحية رقيقة، وتوجد سوائل في داخل الأرض منصهرة من المعادن المذابة، فلو تركت بلا جبال لاهتزت قشرة الأرض كالمركب أو السفينة فوق هذه السوائل، ولكن الله سبحانه جعل الجبال فيها كالوتد يثبت القشرة الأرضية في باطن الأرض فلا تهتز ولا تتحرك إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل:٦١]، ترسيها فلا تميد بالناس: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل:٦١]، أي: البحر العذب والبحر المالح، فقد جعل الله بينهما حواجزاً من قدرته سبحانه وتعالى، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:٥٣].
وسبق في سورة الفرقان أن الله سبحانه وتعالى جعل الأنهار تصب في البحار، فإذا صب النهر في البحر لم يختلط ماء البحر بالنهر، ولا ماء النهر بالبحر، لجعله برزخاً بين الاثنين في مصب النهر.
قال سبحانه: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} [الفرقان:٥٣]، من قدرة الله سبحانه فلا يطغى ملح البحر فيدخل في النهر فيفسده، ولا ماء النهر يدخل في البحر فيحليه، ولكن جعل بين الاثنين برزخاً بقدرته سبحانه وتعالى.
قال: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:٥٣]، مانعاً ممنوعاً، فهذا لا يغير هذا، وهذا لا يغير هذا، حتى الكائنات الموجودة في البحر لا تختلط بكائنات النهر، فلا تذهب التي في النهر إلى البحر لتكون كائنات ملحية، والأخرى كذلك، بل من عجيب قدرة الله سبحانه: أن البرزخ بين الاثنين له كائنات مخصوصة، فقد وجد الباحثون أسماكاً في هذا البرزخ لو خرجت منه إلى غيره لماتت، قال سبحانه: (برزخاً)، فهذا البرزخ الواقع في المكان الوسط بين الاثنين حجر محجور أي: يحرم على هذا أن يغير هذا، وعلى هذا أن يغير هذا، ويحرم كذلك على الكائنات، فلا هذه تذهب إلى هذه ولا الأخرى تفعل ذلك، فهو حاجز من صنع الله سبحانه، ثم يستفهم: من الذي صنع ذلك؟ قال: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦١]، فهل هناك إله يستحق أن يعبد مع هذا الخالق العظيم الذي فعل لكم ذلك؟! {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل:٦١]، كما قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:٩١]، أي: ما عرفوا أنه الرب الخالق، ولم يستيقنوا، وفرق بين من يعرف ومن يستيقن في قلبه فيعمل من أجل ذلك، فمعرفتهم تلك معرفة كالجاهلية؛ لذلك وصفهم أنهم جاهلون، وأنهم لا يعلمون.
وسترى أن كل إنسان يدعي أنه يعرف الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه المعرفة هل تفيدك أو لا تفيدك؟ كإنسان يقول: أنا أعرف هذا المكان؛ لأنه قد سمع عن هذا المكان، ولكن لعله لو ذهب إليه لضاع فيه، وكأنه لم يعرف شيئاً.
وكذا الإنسان الذي يقول: إن الله خلقني وأنا أعرفه، فيقال له: أنت حين عرفته ما الذي صنعته؟ هل عبدته أم عبدت غيره؟ هل خفت منه سبحانه؟ هل جهزت نفسك ليوم تلقاه فيه سبحانه؟ فيسألك ويحاسبك، فستجد أن
الجواب
لا فهذه المعرفة لا تنفعه مطلقاً؛ فكأنه لم يعرف شيئاً، إذ لو عرف الله لقدره حق قدره، قال سبحانه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:٧٥]، يعني: بل أكثر هؤلاء الناس لا يعلمون شيئاً عن قدرته سبحانه، فالمعرفة التي تنفع صاحبها هي المعرفة التي ينبني عليها العمل، كمن يعرف الله فيصلي له سبحانه، ويخاف منه سبحانه فيتقرب إليه، ويطيع النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر وفيما نهى، فهنا يقال: إنه عرف الله وقدر الله حق قدره.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يقدرون الله حق قدره.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.