للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة)]

قال تعالى عن صفات هؤلاء المحسنين: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:٤]، والإحسان درجة عالية، وأقل منها درجة الإسلام، فيكون الإنسان أولاً مسلماً، ثم يرتقي فيكون مؤمناً، ثم يرتقي فيكون محسناً، وقد جاء في حديث جبريل: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: فأخبرني عن الإيمان قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).

فالإسلام أعمال يعملها الإنسان، وقد تكون متفقة مع ما في قلب هذا الإنسان، وقد يكون في قلبه شيء آخر غيرها.

والإيمان هو الشيء الباطن الذي يطلع عليه الله سبحانه وتعالى، وما كان في باطن الإنسان من خير فهو أعظم من ظاهره؛ لأن الظاهر يحتمل ويحتمل، وأما إذا كان الباطن موافقاً لهذا الظاهر فهذا هو الإيمان.

إذاً: المؤمن هو الذي يأتي بأركان الإسلام الظاهرة مع وجود الإيمان في قلبه.

وأما المحسن فهو الذي حصل الإيمان والإسلام ووصل لدرجة استحضار خشية الله سبحانه كأنه يراه أمامه سبحانه وتعالى، فهؤلاء المحسنون: مسلمون مؤمنون عابدون لله مخلصون له، كأنهم يرونه سبحانه.

ومن أوصفاهم: أنهم يقيمون الصلاة، قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:٤]، يعني: يؤدون الصلاة على الوجه الذي يرضى به الله عز وجل عنهم، وعلى الوجه الذي يحبه سبحانه، فيؤدونها بأركانها وبشروطها، وبهيئاتها وبسننها وبمستحباتها، ويأتون بها على الوجه الذي يرضي ربهم سبحانه وتعالى.

وقوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [لقمان:٤] من أقام الشيء بمعنى: رفعه، أي: أن هذه الصلاة ترفع إلى الله سبحانه وتعالى، لا أنها مجرد تأدية ونقر وانتهى الأمر، وإنما هي إقامة لها كما قال تعالى: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [لقمان:٤].

قال تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [لقمان:٤]، أي: يؤدون هذه الزكاة، والإيتاء: هو الإعطاء، وهو: إخراج المال ودفعه للفقير، والزكاة: إيتاء مال خاص لمستحقه، وهي ليست عوضاً.

وهذه الآية وغيرها من الآيات في الأمر بأداء الزكاة وإيتائها تبين خطأ من يقول: إذا كان لشخص على آخر ديناً فلهذا الأخير أن يخصم من الدين مالاً ويقول: هو زكاة المال؛ بل لا بد من إعطائه لمن يستحقه ممن هو من أهل الزكاة؛ ليرفع عنه ما هو فيه من حاجة وفاقة.

وقد سميت الزكاة زكاة من زكى الشيء، بمعنى: نما وطهر، فالزكاة تطهير للمال وتنمية له، فأداؤك للزكاة عبارة عن تطهير لنفسك ومالك، وأيضاً تنمية لمالك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة).

قال تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:٤] أكد ذلك بأم هؤلاء هم بالآخرة هم يوقنون، أي: أن يقينهم بالله عز وجل عظيم وشديد، فهم محسنون ومستحضرون لعظمة الله، ومستحضرون ليوم القيامة، ومن كان مستحضراً ليوم القيامة فلا يقع في خطأ، ولا في الخطيئة، وإذا وقع في شيء من ذلك تاب بسرعة إلى الله عز وجل ورجع إليه؛ لأنه يخاف من الحساب يوم الدين.

قال تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:٤]، فهم ليسوا عارفين فقط، وإنما موقنون، أي: اليقين الذي يدفع للعمل، والإنسان الذي يعرف وجود الله غير الذي يستيقن بوجود الله، فالذي يستيقن بوجود الله يخاف منه سبحانه، ويستحضر عظمته، ويعمل له ويراقبه في كل مكان سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أن الله معه، وأنه يراقبه وسيحاسبه، فيكون خائفاً من الله عز وجل، هذا هو اليقين بالله سبحانه.

وكذلك اليقين باليوم الآخر، فإنه يستحضر طول الموقف بين يدي الله عز وجل، فإذا قام في الصلاة وتعب في قيامه فيها تذكر القيام خمسين ألف سنة يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، وإذا شق عليه الصوم في اليوم الحار الشديد الحر وظمأ وعطش وجاع، تذكر يوم القيامة، وتذكر أن الشمس تدنو من رءوس الناس وهم قيام بين يدي الله سبحانه وتعالى، وأنهم يعطشون في هذا اليوم عطشاً شديداً، فذلك اليوم هو يوم العطش الأكبر، وأن الله عز وجل يروي فيه من يشاء من خلقه سبحانه وتعالى، فيخاف من شر ذلك اليوم، ويدفع شره عنه بالعمل الصالح من صلاة وصيام وزكاة، وقد جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أنه سمع وهو في سفينة صوتاً ينادي عليهم: (يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه)، ولم يروه في الظلام فقالوا: (قل: فإنا نسمع، فقال: إن الله قضى على نفسه أنه من عطش نفسه في يوم أو من صام في يوم شديد الحر، كان حقاً على الله أن يرويه في يوم العطش الأكبر) يعني في يوم القيامة.

قال تعالى: {أُوْلَئِكَ} [لقمان:٥]، أي: الذين يفعلون ذلك، {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان:٥]، أي: هداهم الله سبحانه وتعالى، والهدى من الله عز وجل، فيهدي من يشاء سبحانه وتعالى متفضلاً عليه، ويضل من يشاء سبحانه، وله الحكم والقضاء والتقدير، وهو الحكم العدل سبحانه.

قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان:٥]، أي: هداهم وبين لهم وأخذ بأيديهم إلى طريق الخير، فكانوا على هدى من ربهم، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان:٥] والفلاح: النجاح الذي لا خسران بعده أبداً، فهم الذين يفلحون في الآخرة فلا يخسرون أبداً.

قال تعالى: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٦٢].

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>