للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:٧٣ - ٧٦].

يضرب الله عز وجل لنا في هذه الآيات مثلاً، وأمرنا أن نستمع لهذا المثل فقال: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:٧٣] ولم يقل: فاسمعوا له من السماع؛ لأنه قد يمر الشيء على أذنك فقد تفهمه، وقد لا تفهمه.

ولكن الاستماع بمعنى: الإصغاء والتدبر والتأمل فيما يقوله الله سبحانه وتعالى.

فيضرب الله لنا الأمثال ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:٢٦]، والبعوضة من خلق الله عز وجل فلا يستحيي أن يضرب المثل بها، وبما فوقها من كائنات يخلقها الله عز وجل.

فهي وإن كانت حقيرة في نظركم لكنها عظيمة جليلة في خلقتها؛ ولذلك لو اجتمع الخلق كلهم أن يخلقوا شيئاً من أحقر الأشياء التي ينظرون إليها ويستقلونها في أعينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

فلذلك يضرب الله عز وجل المثل بهذا الشيء وإن كان يبدو لك حقيراً، ولكن خلقته خلقة عظيمة جداً، فالله الذي خلقه والذي قدره على أن يطير، والذي قدره على أن يؤذيك ويضايقك.

فانظر إلى الذبابة وسميت ذبابة؛ لتذبذبها وكثرة طيرانها، وذهابها ومجيئها، فهي مخلوق خلقه الله عز وجل يؤذي بطبعه فجعله الله عز وجل في الدنيا عبرة، وجعله يوم القيامة في نار جهنم عذاباً على أهل النار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذباب كله في النار ليكون عذاباً لأهلها.

وفي الدنيا لا يقدر الإنسان على أن يمحو الذباب أو يفنيه، وقد يقلل منه، وهو يتكاثر سريعاً بأمر الله تعالى فيبقى ليؤذي الإنسان، وقد ينفع الإنسان به في أشياء كما ذكرنا في الحديث السابق.

فالله عز وجل يضرب لنا المثل بالذباب الذي نحتقره ونستصغره، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:٧٣]، إنه لو اجتمع هؤلاء جميعهم العباد والمعبودون من دون الله سبحانه فلا يستطيعون أن يخلقوا ذباباً.

قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:٧٣] فلو أن الذبابة وقعت على طعام أحدكم فأخذت منه شيئاً، وطارت به؛ ما قدرت أن تستنقذه منها.

وقد ذكرنا سابقاً كيف أنهم راقبوا هذا في الذباب ووجدوا أنه بمجرد أن تضع لعابها على الطعام وقبل أن يدخل في جوفها تحوله إلى شيء آخر يسهل امتصاصه والطيران به.

ولا يقدر أحد أن يستنقذه منها أبداً، قال سبحانه: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:٧٣].

والإنسان قد يكون قوياً، فيصارع إنساناً قوياً، ويغلبه ويأخذ منه ما سلبه إياه.

ولكن الذبابة الحقيرة تأخذ الشيء، ولا تقدر أن تسترجعه منها.

إذاً: اعرف قدر نفسك فالله عز وجل خلق الأشياء وسخرها لكم، وخلق أشياء ولم تقدروا على تسخيرها إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.

قال: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:٧٣] الطالب هو الذي يريد استنقاذ الشيء، والمطلوب هو الذبابة الضعيفة.

فكما ضعف الطالب عن الذبابة كذلك ضعفت الآلهة التي يطلبونها ويرجونها من دون الله عز وجل، وضعف عبادها، وهي لا تنفعهم إلا أن يتوبوا إلى ربهم سبحانه وتعالى، ويعبدونه وحده لا شريك له.

ومن هذه الآية يتبين عدم احتقار أي مخلوق من مخلوقات الله تبارك وتعالى، فلعل الله عز وجل يجعل فيه من القوة ما إنه يسلب منك شيئاً، فلا تقدر أن تسترد هذا الشيء منه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>