للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:٥ - ٧].

يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن تكذيب المشركين للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وعن جحودهم وإعراضهم عنه، فقد كانوا لا يسمعون ما يقول، ويعرضون عنه فلا يسمعون ولا يفهمون كلامه صلى الله عليه وسلم، إلا مجرد سماع لا ينتفعون به، فهم كالذين لا يسمعون ولا يفهمون، ومع ذلك كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:٥] وأكنة: جمع كنان وكن، وهو ما يغطي الإنسان.

فقالوا: قلوبنا عليها أغطية مغطية عليها، فهي {فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت:٥] أي: في أغطية مكنونة داخل هذا الغطاء، فلا تراك، ولا تسمعك، ولا تعقل عنك، فهي مغطاة وعليها أغشية ومطبوع عليها، فلا تفهم هذا الذي تقول.

{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:٥]، فهي إذاً: ليست في أكنة من كل شيء، وإنما منك أنت وحدك، فنفهم أي شيء آخر إلا الذي تأتي به، فقلوبنا في أغطية ثقيلة عنك أنت بالذات.

{وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت:٥] فالقلب لا يفهم ولا يعي ما تقوله وما تريده، والآذان مسدودة، بحيث لا نسمع ما تقوله، ولا نريد أن نستمع إليك، وأما غيرك فسنسمعه.

{وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت:٥] أي: صمم، فهي مسدودة فلا نستمع إليك.

{وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:٥] أي: هناك حاجز بيننا وبينك، فلا نفهم هذا الذي تقول، {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:٥].

وقد كانت هذه معاملة الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم، فكم عانى وكم قاسى صلوات الله وسلامه عليه من هؤلاء؛ فقد كان يذهب إليهم ويخاطب عقولهم فيقولون له: لا نفهم، فيخاطب قلوبهم فيقولون له: نحن نغطيها فلا تعي هذا الذي تقول، ويخاطب أسماعهم فيسدون آذانهم بأصابعهم فلا يستمعون للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد استغشوا ثيابهم وأسروا النجوى فيما بينهم بألا يسمعوا له، فكان إذا جاء أحد إلى مكة جاء إليه الكفار محذرين له قائلين: لا تذهب إليه -أي: الرسول- فإنه مجنون وكذاب، ونحن أعلم به، ويأخذون عليه العهود والمواثيق ألا يستمع إليه، فكان الرجل يضع ثوبه فوق وجهه، حتى لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم.

وإذا كلمه النبي صلى الله عليه وسلم سد أذنيه بأصابعه، حتى إن أحدهم ليقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد جئتك وقد حلفت عدد هؤلاء ألا أكلمك.

يعني: أن الكفار أخذوا عليه اليمين عشر مرات ألا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله العظيم سبحانه يشاء أن يدخل الإيمان في قلبه، فيذهب ويستمع ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الذي تدعو إليه؟ فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره: (أدعو إلى الله الذي إن مسك الضر دعوته فكشف عنك، والذي إذا أصابتك سنة جدب دعوته فكشف عنك، والذي إذا أضللت راحلتك دعوته فردها عليك).

أي: أدعوا إلى الله سبحانه الذي أنت تعرف قدرته، وتعرف ما يصنع بك من جميل الفعل سبحانه تبارك وتعالى، والذي إذا أصابك عام جدب وسنة دعوته، فهذا هو الإله العظيم الذي أدعو إليه، وأدعوك لتعبده ولا تعبد أحداً غيره.

وقد كان هذا الكلام يخاطب عقولهم ويفهمون منه، فهم يعرفون ذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٦٧]، فقد كانوا يعرفون هذا الشيء، وكان الواحد منهم يعبد الصنم والوثن ويعبد غير الله سبحانه في وقت الرخاء، فإذا نزل عليه البلاء رفع يده إلى السماء ويقول: يا رب يا رب.

إذاً: فادع ربك في كل وقت، في وقت البلاء، وفي وقت الرخاء، وفي وقت الكرب، وفي وقت النفع والضر.

فادع ربك دائماً، وادع إليه، فهذا الذي تدعوه في وقت ضرك أدعوك إلى أن تدعوه في كل وقت، وأن تعبده وحده لا شريك له.

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب عقول هؤلاء لو كانوا يفهمون، وهم يبتعدون ويعرضون عنه صلى الله عليه وسلم، ويقولون له ما حكاه عنهم القرآن: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:٥] أي: في أغطية مغطاة، وفي أغلفة مغشاة، فلا نفهم ولا نعي.

قوله تعالى: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:٥] أي: اعمل بما تقول أنت، ونحن عاملون بما نقول وما نريد، فلن نتبعك واعمل لإلهك فإنا نعمل لآلهتنا، واعمل في إهلاكنا -متحدين له- فإنا نعمل في إهلاكك.

{فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:٥] أي: الذي تقدر عليه اعمله، ونحن الذي نقدر عليه سنعمله، كد لنا فإننا سنكيد لك، صلوات الله وسلامه عليه.

{فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:٥].

<<  <  ج:
ص:  >  >>