[حكم سؤر الإنسان المسلم والكافر]
قال القرطبي: يكره سؤر النصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها، ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه.
السؤر: هو ما بقي من الماء، فلو أن إنسان نصرانياً عنده إناء فيه ماء فشرب منه وجاء مسلم وأراد أن يشرب فإنه يكره له ذلك، لكن لا يحرم ذلك؛ لأنك لم تستيقن النجاسة في ذلك، فيجوز للمسلم أن يشرب باقيه أو أن يتوضأ به، ولكن يكره ذلك، سواء كان نصرانياً أو يهودياً أو غيرهم من الكفار.
قال: وكذلك المدمن الخمر، فلو أن إنساناً شرب الخمر ثم أخذ إناء فيه ماء وشرب من هذا الإناء، فإنه يكره الشرب من أثر هذا الإنسان.
في الماضي يتكلم في هذه المسألة من حيث الطهارة والنجاسة، فيقول: يكره ذلك باعتبار أن هذا الإنسان الذي يشرب الخمر فاسق، ولم يقل: حرام، لكن الآن مع وجود التحاليل الطبية وغير ذلك، نقول: إن الأفضل للإنسان ألا يشرب من أثر أي إنسان؛ لأنه لا يدري ما يكون في فم هذا الإنسان من مرض، كأن يكون مريضاً بالسل، أو بالربو، أو عنده مرض رئوي أو مرض في الفم وكذا، فيتأذى الناس بعضهم من بعض بهذا الشيء، فالإنسان يأخذ حذره في ذلك، ولا يؤذي نفسه ولا يؤذي غيره.
إذاً: كلام الفقهاء هنا في كونه نجساً أو طاهراً، وليس معنى ذلك: أنه مأمور أن يشرب أو يستحب له، لا؛ لأن مع كثرة الأمراض لابد أن يأخذ حذره من هذا الشيء، ولذلك نمنع من جعل الماء في العلب وإن كان بعض إخواننا يحب أن يجعلها في المسجد، فكنا نفعل هذا الشيء في الماضي، أما الآن مع كثرة الأمراض وكثرة الأوبئة وانتقال العدوى بقدر الله سبحانه وتعالى، بأسباب ملموسة معروفة، فعلى الإنسان أن يجتنب هذا الشيء؛ لأن الأمراض تنتقل بأسباب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك فيروس الكبد، فإنه ينتقل عن طريق اللعاب، وهناك فيروسات تنتقل عن طريق الدم، فعلى ذلك تأخذ حذرك فلا تشرب من هذه العلب الموضوعة في المساجد أو في الشوارع، وهذا لا ينافي قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، وإنما هو أخذ بالأسباب فلا نؤذي أحداً من الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نحتاط، وهذا لا يمنع قدر الله؛ لأنه سبحانه إن شاء لك شيئاً لا قدر الله وقع وجرى، وليس معنى ذلك: أنه إذا كان قدر الله جارياً أن نتركه يجري دون الأخذ بالأسباب، لا؛ لأن الجوع والعطش من قدر الله فنحن ندفع القدر بالأخذ بالأسباب فنأكل ونشرب، فكذلك ندفع قدر المرض بالوقاية منه، وعدم الاقتراب من الأسباب المؤدية إليه، وإذا وقع ندفعه بالتداوي بالمباح، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نزل الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن لم تكونوا فيها فلا تدخلوها) فنهانا أن ندخل مكاناً فيه الطاعون؛ احتياطاً لأنفسنا، وإن كان قضاء الله عز وجل يجري.
ثم قال: وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها.
والمعنى: أن هناك أناس مثل الصين يأكلون الكلاب والهرر وغيرها من الجيف، فهذا الإنسان لو أنه أخذ الإناء وشرب منه، فهل يجوز للمسلم أن يشرب من هذا الإناء الذي شرب منه ذلك الكافر الذي يأكل الجيف والكلاب وغير ذلك؟ هذا الشيء مؤذ، لكن الفقهاء لا يحرمون ذلك وإنما قالوا: يكره ذلك، كذلك يجوز الوضوء من ذلك الإناء، فقد قال الإمام البخاري: وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصراني.
يعني: لما خرج عمر رضي الله تعالى عنه إلى الشام طلب ماء ليتوضأ، فقامت امرأة نصرانية فأدت لـ عمر ماء فتوضأ رضي الله تعالى عنه.
وهذا الماء شرب منه عمر رضي الله تعالى عنه، فكان ماءً عذباً، فلما شرب منه صعب عليه حال هذه المرأة النصرانية، فقال لهذه المرأة: أيتها العجوز أسلمي تسلمي.
يعني: عندما أكرمت عمر بهذا الماء الطيب العذب فشرب منه وتوضأ رأى أن يدعوها للإسلام إكراماً لها، فقال: أسلمي تسلمي، فقد بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، فكشفت المرأة عن رأسها فإذا مثل الثغامة، يعني: أبيض، فقالت: عجوز كبيرة أموت الآن، يعني: بعد السن أدخل في الإسلام وأغير ديني! فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اشهد.