[زوال خاصية الإحراق في النار بأمر الله]
كأن الملائكة تنتظر للنصرة بأمر الله، إما بأن يفتحوا خزائن السماء للمطر ليطفئ النار أو بغير ذلك، لكن هناك ما هو أعجل من ذلك بكثير، فالنار نفسها تتحول إلى شيء آخر، بقوله سبحانه: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩].
فالنار التي هي محرقة صارت برداً وسلاماً، وأصبحت ناراً من حيث المنظر فقط، مثلما فعل مع سيدنا موسى حين أتى للشجرة، وهي شجرة يانعة مزهرة ناظرة وفيها نار، فلا النار تحرق الشجرة ولا الشجرة تطفئ النار، فأخذ قبساً منها فإذا بها نور لا نار.
كذلك هذه النار يحولها الله عز وجل شيئاً آخر، ففي نظر الناس هي نار لكنها كانت على إبراهيم برداً وسلاماً.
ولو قال الله: كوني برداً على إبراهيم، لتألم إبراهيم من شدة بردها، ولكن قال: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:٦٩] أي: كوني برداً وكوني سلاماً على إبراهيم، فكانت أحلى أيام عمره هي تلك المدة التي مكثها في النار المأمورة.
وقوله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:٧٠] أي: أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم وأن يحرقوه بأفظع وأشنع طريقة، وهي هذه النيران المجتمعة لرجل واحد، فإذا بالله عز وجل ينجي إبراهيم ويقول للنار: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩] ويجعل هؤلاء هم الأخسرين، أي: أشد الناس خسراناً، بدخولهم نار جهنم والعياذ بالله، كما قال الله: {فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:٧٠].
قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:٧١].
أي: أرض البركة، أرض الشام، وهي أرض المحشر، الأرض التي فيها بيت المقدس، وبارك الله عز وجل فيها وجعل فيها المسجد الأقصى، نسأل الله عز وجل أن يحرره من دنس اليهود والمشركين، فجعلها الله أرضاً مقدسة، وفيها الأنبياء، فجعلهم من أرض الشام.
فأمر الله إبراهيم أن يهاجر إلى أرض أخرى، وكان في العراق عليه الصلاة والسلام، فهاجر منها إلى الشام بأمر الله عز وجل.
قوله: {وَلُوطًا} [الأنبياء:٧١] ولوط هو ابن هاران، وهاران هو أخو إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فلوط ابن أخيه، فيصير إبراهيم عم لوط عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فتوجها إلى الشام، ولكن كل منهما في مكان، فإبراهيم نبي في مكان ولوط نبي في مكان آخر.
قوله: {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:٧١] أي: فيها بركة من الله عز وجل، في زرعها وثمارها؛ لذلك فهي كثيرة الخصب، ففيها البساتين، وفيها الحقول الخصْبة الكثيرة، وفيها الثمار والأنهار، وبورك فيها أيضاً لأنها موطن الأنبياء، فأكثرهم منها.
والبركة معناها: ثبوت الخير، وأصلها من بروك البعير، يقال: برك البعير، إذا نزل على الأرض وثبت عليها، فالبركة الخير الثابت الدائم.