[تفسير قوله تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فاطر: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ * وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:٢٩ - ٣٣].
يخبر الله سبحانه وتعالى عن عباده الذين اصطفاهم وهداهم ووفقهم لطاعته، كيف يدخلهم جنته، ويعطيهم الأجر العظيم يوم القيامة، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [فاطر:٢٩]، إيمان هؤلاء في قلوبهم يدفعهم إلى هذا العمل العظيم، العمل الصالح، فهم يتلون كتاب الله فينتفعون بتلاوته، ويؤجرون على ذلك، ويعملون به، فيقرءون القرآن، ويعملون بأحكامه، ويتعظون بمواعظه، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله.
ثم قال: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [فاطر:٢٩]، وقد أخبرنا سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:٤٥]، قال: (وأقاموا الصلاة)، ولم يقل: وصلوا، ولكن أقاموا الصلاة، وإقامة الصلاة أن تقيمها مستوفاة الأركان والشروط، وتأتي بها خالصة لله سبحانه وتعالى، هذه إقامة الصلاة.
قال سبحانه: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [فاطر:٢٩] جاء التأكيد على أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:٥٨]، فهؤلاء أنفقوا؛ لأنهم علموا أن المال مال الله، وأن الرزق من عند الله يرزق من يشاء سبحانه وتعالى.
فهم يأخذون بالأسباب والله يرزقهم، وهم ينفقون من فضل الله ومن رزق الله سبحانه، ((وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ))، هذه النفقة التي ينفقونها سراً وعلانية، كأنهم ينفقون في كل أحوالهم، حين يحتاج المحتاج ويمد يده إليهم فلا يمنعونه، بل يعطونه مما رزقهم الله، ويخفون الإنفاق قدر المستطاع، ويظهرون إن لم يقدروا على الإخفاء، فينفقون مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، وأحياناً يكون الإظهار خيراً كإظهار زكاة المال حين يعطيها الإنسان خاصة في الزروع والثمار والمواشي ظاهرة أمام الفقراء، فإذا جاء الفقراء لا يخبئ عنهم هذه، ويقول: أنا أعطي في السر، ولكن يعطي من حضره من الفقراء من هذا المال، فيقتدي به غيره، فيعلم الفقراء أن فلاناً قد جدد حصاده في هذه الأيام، فيذهبون إليه فيأخذون من ماله الظاهر، ويعطي حتى لا يتهم بأنه مانع للزكاة، فيعطي ما أمر الله سبحانه، وأصحاب بهيمة الأنعام كذلك أموالهم أموال ظاهرة، فينفقون الزكاة التي أمر الله عز وجل ظاهراً، حتى يعرف الفقراء وقت دفعه لهذه الزكاة فيحضرون ليأخذوا منه، وإذا أراد أن يذبح أضحيته ويوزعها على الناس فليظهر ذلك؛ حتى يعرف الفقراء فيأتون ليأخذوا نصيبهم ورزق الله سبحانه وتعالى لهم، فهذه أشياء ظاهرة في الشريعة، فيظهر ما أظهرته هذه الشريعة في الأمر بالإنفاق من ذلك، فإذا كانت صدقة التطوع أخفى ذلك؛ لأنه يريد أن يعطي وأن يؤجر أعظم الأجر عند الله سبحانه.
فالأصل أنه يخفي النفقة، وقد علمنا من الحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر من هؤلاء السبعة-: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، أخفى وأسر هذا الإعطاء، فهو أعطى للفقير بحيث لا يدري أحد ما الذي أعطاه، فأخفى صدقته احتساب ورجاء أجر الله سبحانه وتعالى، تعلم ذلك من كتاب الله سبحانه الذين ينفقون أموالهم {سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:٢٩].
فأنفق في السر وأنفق في العلانية، ومهما قدر على أن يسر نفقته أسرها وأعطى للفقير محافظة على شعوره، وأيضاً محافظة على ثوابه؛ لئلا يضيعه بالسمعة والرياء.
النفقة في السر حسنة، والنفقة في العلانية حسنة، ولكن صدقة السر أعظم من صدقة العلانية، إلا أن تكون زكاة ظاهرة كما ذكرنا، فقد استحب أهل العلم أن يظهر المرء زكاة الحبوب والثمار وبهيمة الأنعام؛ لأنها أموال ظاهرة، فلو أخفى ذلك فالفقراء قد لا يعرفون أن فلاناً هذا يخرج زكاة ماله في هذا العام، ولا يذهب إليه أحد، ولعله هو لا يعرف كل أصحاب الحاجات، فيكون من أهل الحاجات من لم يعرف ميقات زكاة هذا فلم يأت إليه، وأعطى لغيره وهذا أولى.
فلذلك استحبوا أن يحدد اليوم الذي يخرج فيه زكاة حبوبه وثماره؛ حتى يأتي الفقراء فيأخذوا نصيبهم ورزقهم من ذلك، أما المال المخفي المستتر الذي لا يتطلع عليه الناس فإنه يسر نفقته ويسر صدقته، يبتغي أن يظله الله عز وجل بظله يوم لا ظل إلا ظله.
إذاً: النفقة في العلانية حسنة، والنفقة في السر أحسن منها، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:٢٧١]، أي: نعم الشيء أن تبدي الصدقات، {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:٢٧١]، أي: خير لكم، يعني: أفضل وأخير لكم أن تخرجوا هذه الصدقة في السر.
والصدقة في السر تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، فأنت حين تعطي الصدقة للفقير في السر من غير أن تفضح هذا الفقير، فالله سبحانه وتعالى إن كان به غضب عليك فهذه النفقة تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى.