[بيان أن الخلق بعضهم فتنة لبعض]
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:٢٠]، أي: كل خلق الله عز وجل، فقد جعل الله بعضهم لبعض فتنة، حتى المتناقضات في الدنيا، مثل الغني والفقير، فإن هذا نقيض لهذا، فالفقير فتنة للغني، والغني فتنة للفقير، فكل من الاثنين فتنة للآخر، فالفقير ينظر للغني ويقول: أعطاه الله ولم يعط، وليس بأفضل مني، فيكون فتنة له، والغني ينظر للفقير ويقول: لو كان صالحاً لأعطاه الله، وما حرمه إلا لأنه لا يستحق، والذي معي إنما هو بعقلي وذكائي وتدبري، فكل واحد منهما فتنة للآخر، وكذلك المؤمن والكافر كل منهما فتنة للآخر، فالمؤمن ينظر إلى الكافر ويرى أن الله يعطيه في الدنيا مالاً وبنين وكذا وكذا، فيكاد يتزلزل عن دينه، لولا أن الإيمان الذي في قلبه يثبته، ولولا شرع الله عز وجل الذي يقول له: لا، فنحن جعلنا هذا لك فتنة، فإياك أن تفتن بذلك، فإنما نبتليك بهذه الدنيا، فاصبر، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:٢٠]، فيقول المؤمن: أصبر على هذه الدنيا.
والكافر ينظر إلى المؤمن، وإلى البلاء الذي هو فيه، وإلى الكرب والتضييق الذي عليه فيقول: لو كنت أسلمت لحصل لي هذا، فيكون فتنة له.
وكذلك الصحيح والمريض، فإن المريض ينظر إلى الصحيح فيكون فتنة له، فيتساءل لماذا هو صحيح يمشي على رجليه وأنا لا أقدر على المشي بقدمي، وإنما على عصا؟ ولماذا هو بصير وأنا أعمى لا أرى؟ ولماذا هو يسمع وأنا لا أسمع؟ فجعل بعضهم لبعض فتنة، فهذا يفتن بهذا، وهذا يفتن بهذا.
والإنسان البصير يرى أنه أحسن من المريض؛ لأنه ينظر والمريض لا ينظر.
وهكذا يبتلي الله عز وجل العباد بعضهم ببعض.
ثم أمرهم الله بالصبر على قضاء الله وقدره، فقال: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:٢٠]؟ وجعل الرسل فتنة لأقوامهم، فمع أنهم هداية لأقوامهم من الضلال إلا أنهم فتنة لهم، كما قال أحد الكفار: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١]، يعني: ألا يوجد عظيم في القريتين -مكة والطائف- ينزل عليه القرآن غير محمد صلوات الله وسلامه عليه؟ أفلا يوجد في مكة فلان وفلان، وفي الطائف فلان وفلان؟ ثم هو فقير ليس معه شيء ومع ذلك صار نبياً ورسولاً!! فكان صلى الله عليه وسلم فتنة للكفار، فامتنعوا من الدخول في دين الله عز وجل؛ لأنهم رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس أغناهم، ولا رئيس القبيلة التي هو فيها، ففتنوا بذلك، فقال الله عز وجل للمؤمنين: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:٢٠]؟ أي: تصبرون على هذه الفتن وهذا البلاء أم تكفرون؟ فالمؤمن يصبر لأمر الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن ما أصابه من مصيبة فبما كسبت يداه، وأيضاً الحكام والرعية فإن بعضهم لبعض فتنة، فالمحكوم يقول: إن الحاكم ظالم يظلمني، ويعمل كذا وكذا، والله يقول له: اصبر لأمر الله سبحانه وتعالى، وأما الحاكم فإنه يتعالى على المحكوم ويقول: أنا أحسن منه، ولم أصل إلى هذا المكان إلا بذكائي ومنزلتي، وصدق الله عندما قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:٢٠].
فالإنسان المسلم يصبر على قضاء الله وقدره، ويصبر عن معصية الله فلا يقع فيها، ويصبر على طاعة الله فيأتيها، فهو صابر لأمر ربه، وربنا يقول: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:٢٠].
وقد روي أن الإمام المزني رحمه الله وهو من تلامذة الشافعي رضي الله عنهما أخرجته الفاقة والفقر يوماً -وقد كانوا يقولون: من طلب العلم الشرعي فلا بد أن يعانق الفقر، وقد كان أغلب العلماء رضي الله تبارك وتعالى عنهم فقراء- خرج يوماً فلم يجد ما يأكل ولا ما يشرب؛ فخرج يبحث عن رزق، فرأى رجلاً في مراكب ومواكب، وليس عنده علم، وإنما كان من الجهال، ويركب المراكب، وحوله مواكب يحمونه ويحرسونه، فلما نظر إليه سمع شخصاً يقرأ هذه الآية: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ))، وهذا من رحمة الله به، فإنه يعظه، ويقول له: اصبر فهذا المزني رحمه الله.
وروي أيضاً: أن ابن القاسم صاحب مالك تلا هذه الآية حين رأى أحد الأمراء وهو أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابراً عليه، فتلا هذه الآية: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)).
فالمؤمن حين يرى شيئاً لا يقدر عليه يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، فلا يحسد أحداً، ثم يذكر نفسه بقوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ))، ويقول: سأصبر لأمر الله سبحانه وتعالى.
أما أن يحسد المبتلى المعافى فهذه هي الفتنة، إذاً: فمعنى قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً))، أن يقوم المبتلى والفقير وصاحب الحاجة والمريض وصاحب المنزلة الضعيفة والحقيرة يحسد من هو أفضل وأعلى منه، فهذه هي الفتنة أو أن يحتقر صاحب النعمة من هو أقل منه، فهذه فتنة، فالله عز وجل يقول للجميع: (أتصبرون)، فلا بد للإنسان من أن يصبر، ويقول: إن كان الله قد أعطاني المال، فسأنفقه في الوجوه التي يريدها سبحانه وتعالى، وأعطيه لله سبحانه وتعالى، ويقول الفقير: سأصبر على هذه الحاجة التي أنا فيها؛ لأني ابتغي جنة الله سبحانه وتعالى، ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)).
وقد كان من الفتن التي فتن الله بها قريشاً: أنهم نظروا لهذا القرآن وعلموا أنه ليس من كلام البشر، بل من كلام الرب العظيم سبحانه، ثم نظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، فرأوا معه أبا ذر وعبد الله بن مسعود وعماراً وبلالاً وصهيباً وعامراً بن فهيرة وسالماً مولى أبي حذيفة وهم فقراء وبعضهم عبيد، فقالوا: إذا أسلمنا أصبحنا مثلهم، وقعدنا معهم، فلن ندخل في هذا الدين، والذين قالوا هذا القول هم أبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث، وكانوا مشايخ قريش وأغنيائها ورؤسائها، فهم الذين قالوا: لن نسلم ونجلس مع هؤلاء، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نسلم فاجعل لنا يوماً لا يقعدون فيه معنا، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابتهم، وإذا بالله عز وجل ينزل على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:٥٢].
أي: احذر أن تطرد هؤلاء عنك، كما يريد الكفار من إبعادهم؛ حتى يجلسوا هم، ثم نصر الله عز وجل دينه، وأذل هؤلاء الكفار، فمنهم من مات على كفره، ومنهم من أسلم بعد ذلك، فرأى فضل هؤلاء السابقين عليه، والذين ذكرهم الله عز وجل بقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:١٠]، أي: الذين سبقوا، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:١٠٠]، ولذلك: فإن الإنسان المؤمن يصبر إن كان ضعيفاً أو فقيراً أو محتقراً عند القوم، وليعلم أن له عند الله عز وجل ما ترفع به درجته.