[رهبان النصارى يدلون سلمان الفارسي على الدين الحق]
وممن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد عرف اليهود والنصارى وعاش معهم طويلاً: سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان أبوه من المجوس، وكان صاحب نيرانهم، وكان ذا رتبة كبيرة فيهم، وكان يحب ابنه سلمان رضي الله عنه، ومن شدة خوفه عليه كان يحبسه في البيت، فشب رضي الله عنه وهو لا يعرف شيئاً عن الدنيا، وكل ما يعرفه هي النيران التي كان أبوه يصنعها ويوقدها لقومه، والمكان الذي هو فيه، وفي مرة من المرات أرسله أبوه لشيء، فخرج فمر على ناس يتعبدون، فسأل عن هؤلاء فقالوا: نصارى، فرجع إلى أبيه وأخبره عن هؤلاء، فقال له: إنهم على باطل، وأمره أن يدعهم ولا يأتيهم مرة أخرى، فذهب إليهم من وراء أبيه، فحبسه أبوه لما علم بذلك، ثم هرب من أبيه وذهب إلى راهب من رهبان النصارى وأعجبه توحيده، فقد كان على الحق قبل بعثة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان من النصارى الموحدين، فلما أتاه مكث معه فترة، ولما جاءته الوفاة دله أن يذهب إلى فلان فيعبد الله معه، فتوجه سلمان إلى ذلك الراهب من النصارى الذين كانوا على التوحيد، وتعبد لله عز وجل معه إلى أن قربت وفاته، فقال له سلمان: إلى من أذهب؟ قال: اذهب إلى فلان فاعبد الله معه، وهكذا حتى مر على ثمانية عشر من النصارى أو نحو ذلك، فيمر عليهم واحداً واحداً، وكل واحد إذا جاءته الوفاة قال له: اذهب إلى فلان واعبد الله معه، وهكذا ظل رضي الله عنه يبحث عن الدين الحق، وهؤلاء النصارى كانوا على التوحيد قبل النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف غيرهم ممن كانوا يثلثون، وفي النهاية عندما كان آخر راهب قال له: والله لا أعرف أحداً على وجه الأرض على ما نحن عليه من التوحيد، -وقد كانت الأرض مليئة بالنصارى، ولكنه يقصد من كانوا على التوحيد-، وقد أضلك زمن يبعث فيه نبي، ففرح سلمان رضي الله عنه، وقال: أين هذا النبي؟ قال: في المدينة.
فأحب سلمان الفارسي أن يتوجه إلى المدينة، فانتظر إلى أن جاءت سفينة وفيها بعض العرب، وكان العرب في جاهليتهم أشراراً ليس عندهم وفاء ولا عهد إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فأخذوا منه أجرة من أجل يوصلوه إلى المدينة، وبعد أن ركب معهم صيروه عبداً عندهم، وهذا من نذالتهم وخيانتهم للوعود، ولذلك مقتهم الله عز وجل، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:(أن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فمقتهم جميعهم إلا بقايا من أهل الكتاب).
أي: إن الله مقت العرب والعجم من أهل الأرض، وقعت كفار أهل الكتاب الذين ثلثوا وعبدوا غير الله سبحانه وتعالى، وزعموا أنهم يعرفون الله، قال الله سبحانه:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة:٣٠].
وقد كان العرب في جاهليتهم شر خلق على وجه الأرض، فكان يأكل بعضهم بعضاً، ويغتصب بعضهم بعضاً، ويخون بعضهم بعضاً، وليس فيهم أمن ولا أمان، وتغير القبيلة على القبيلة الأخرى والثانية عليها، فمقت الله أهل الأرض جميعهم قبل مجيء نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بقايا من أهل الكتاب، فذهب سلمان معهم إلى المدينة وباعوه لليهود وأخذوا ثمنه، وهو في كل ذلك صابر ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عرف من هؤلاء الرهبان صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً فـ سلمان كان من المجوس ولم يكن من النصارى، ثم تنصر بعد ذلك مع هؤلاء الذين كانوا على التوحيد، وانتظر النبي صلى الله عليه وسلم فمكث في المدينة ولم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً؛ لأنه كان ما زال عبداً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إذا بـ سلمان يتشوق إليه، فسمع اليهودي مع قريبه يقول: لقد جاء محمد، فسمع ذلك وهو فوق النخلة، فكاد يسقط منها لما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ من شدة فرحه، وذهب يسأل اليهودي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا باليهودي يلطمه ويقول: مالك وله، اذهب إلى عملك.
فرجع إلى عمله رضي الله عنه، وذهب ذات مرة إليه عليه الصلاة والسلام وقد ادخر من طعامه شيئاً، فأعطاه إياه وقال مختبراً له: هذه صدقة، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها لأصحابه، فأكلها أصحابه ولم يأكل منها، فتبين لـ سلمان أنه نبي؛ لأن النبي لا يأكل الصدقة، وقد عرف من أهل الكتاب أن النبي يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، فجاءه مرة أخرى بتمر وقال: هذه هدية، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم وأكله، ثم جاء سلمان يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم للذي يريده سلمان، وأنه يريد أن يرى خاتم النبوة كالبيضة على كتف النبي صلى الله عليه وسلم، فألقى النبي صلى الله عليه وسلم ما عليه من رداء، فنظر إلى خاتم النبوة، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم وصدق وآمن رضي الله تعالى عنه.
فهذا واحد ممن كان من أهل الكتاب، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم بعلامته.