[تفسير قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم)]
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:٥٦]، هنا تنبيه للنبي عليه الصلاة والسلام بأن يصبر على أمثال هؤلاء؛ لأن هذا أمر يضايق الإنسان أن يسمع الجدل بالباطل، فبدأ ربه سبحانه معه بقوله: {فَاصْبِرْ} [غافر:٥٥]، فهم سيجادلونك، وسيؤذونك، وسيحاولون أن يفعلوا بك ما يريحُ أنفسهم من أذى لك وإتعاب لك، (فَاصْبِرْ) على ذلك.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رزق عبد خيراً ولا أوسع من الصبر)، فالله يرزق العباد الكثير، وأفضل ما يرزق العبد الصبر، فإذا بهذا الإنسان الصابر يجد نفسه أغنى الناس؛ لأنه رزق الصبر فلا يحتاج إلى أحد من الناس، فتراه يصبر على البأساء وعلى الضراء، ويصبر على قضاء الله وقدره، ويصبر على تكاليف ما جاء في هذه الشريعة من أوامر فيفعلها، ويصبر على ما نهى الله عز وجل عنه فيجتنبه.
فقوله: تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر:٣٥]، أي: يضايقونك، ويتكلمون معك جدالاً بجدال، وقوله: {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر:٣٥]، أي: بغير حجة من عند الله سبحانه وتعالى، وقوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} [غافر:٥٦]، (إن) هنا بمعنى: ما، أي: ما في صدورهم إلا كبر، وهذا أسلوب قصر، أي: الجدل ليس إلا للكبر الذي في نفوسهم، فهم يجادلون مستكبرين على شرع الله، ومستكبرين أن يطيعوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فليس في صدورهم علم، وليس في صدروهم دين، وليس في صدورهم نور، بل في صدورهم الكبر والتعاظم وبطر الحق وغمط الناس، فهؤلاء القوم يخبر الله عز وجل عنهم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ليس في قلوبهم علم حين يجادلونه، إنما الذي في صدورهم حب الجدل استكباراً عن الحق.
وكذلك كل إنسان يجادل بالباطل ليس في صدره علم، ولو كان في صدره علم لتكلم بالحق، ولأذعن له، ولا سمع للخصم فيما يقول، ولأنصف من نفسه، ولكن هؤلاء لا ينصتون، فهم يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم بآذانهم، أما قلوبهم فلا تعقل ولا تفقه شيئاً، ولكنهم يسمعون ليردوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا كل مجادل بالباطل يستمع إلى خصمه لا يفكر فيما يقول، إنما يفكر كيف يرد عليه كبراً، فعظمت أنفسُهم في أنفسِهم واستعظموا واستكبروا.
وقوله تعالى: {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:٥٦]، أي: أن العظمة التي يدعونها لن يصلوا إليها أبداً؛ لأن الله يأبى إلا أن يضعه ويذله ويفضحه، فهؤلاء الكفار الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم أذلهم الله وأخزاهم، فجعل شيوخهم وكبراءهم قتلى وصرعى في يوم بدر، فقد أنتنت جيفهم، وألقوا في قليب بدر جثثاً منتنة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا)، وقال لأصحابه: (ما أنتم بأسمع لما أقول من هؤلاء).
فهؤلاء الذين استكبروا عن الحق قال الله عنهم: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:٥٦]، وكل إنسان متكبر عن الحق مستحيل أن يصل إلى ما يزعم أنه متكبر عن قبول الحق ومتعاظم في نفسه يوهم الناس أن معه حق والناس يصدقونه، حتى وإن أطاعه الناس فيما يقول هو في أنفسهم كذاب، ويحتقرونه في أنفسهم ويظهرون له البغضاء، ولذلك كان أتباع مسيلمة حين يسمعون منه ما يقول يضحك بعضهم إلى بعض ويقول بعضهم لبعض: والله إنه لكاذب، ولكن كذاب ثقيف أحب إلينا من صادق قريش، فوجهة نظر هؤلاء الكفار أن هذا كذاب، لكن نحن نحب الكاذب منا على الصادق الذي من قريش.
فالواحد منهم إذا سمعه يتلو عليه أشياء من وحي الشيطان ويزعم أن جبريل جاءه به يقول له: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، فلا يصدقه، وأبى الله إلا أن يحقره فيما يقوله وأن يذله وأن يضعه.
فهنا يقول الله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:٥٦]، أي: ليسوا ببالغيه ولن يصلوا إلى ما يتمنون من استعظام أو استكبار، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [غافر:٥٦] أي: استعذ بالله من الشيطان، واستعذ بالله من الكبر، واستعذ بالله من الهوى، وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:٥٦]، أي: يسمعك ويسمعهم ويسمع كل شيء، ويراك ويراقبك ويراهم ويراقبهم ويراقب كل شيء ولا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.