[سؤال أهل الذكر والحذر من اتباع الجهلة]
قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء:٧] يعني: أشخاصاً من البشر، وليسوا ملائكة، {نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:٧].
يقول الإمام القرطبي: لم يختلف العلماء في أن العامة عليهم تقليد علمائهم، والمعنى: أن الإنسان العامي إذا جهل شيئاً من أمر الدين يسأل عالماً من العلماء، لكن لا يذهب ليبحث عن العلماء ويقعد ليرجح بينهم، وإنما يسأل من يطمئن إلى علمه ثم يعمل به ويلزمه تقليده في ذلك إذا سأله، فلا يرجح بين أقوال العلماء، فهو ليس عنده مقدرة على الترجيح، واحتج العلماء بقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:٧].
كذلك أجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بتمييزه، يعني: في أمر القبلة، ولا يجوز له أن يتجه أي اتجاه، وإنما عليه السؤال.
كذلك الإنسان الذي ينزل في بلد ولا يعرف اتجاه القبلة فيها ليس من حقه أن يصلي في أي مكان، ولكن يجب عليه أن يسأل، قال الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:٧]، فلو فرضنا أنه صلى إلى أي اتجاه من غير أن يسأل ومن دون اجتهاد منه فصلاته باطلة، فلا بد أن يسأل، ولا يصلي إلى جهة يشك فيها، ولكن إن جهل ولم تتبين له الجهة ولم يجد من يسأله يجتهد قدر المستطاع، وصلاته صحيحة حتى ولو صلى عكس اتجاه القبلة.
كذلك لم يختلف العلماء في أن الإنسان العامي الجاهل لا يجوز له أن يفتي نفسه ولا يفتي غيره، فلابد أن يسأل ويتبع ما قيل له في ذلك.
وكثير من الناس تجد أنه تنزل به النازلة فإذا به يفتي لنفسه في الحال، ويقول لك: أنا اجتهدت وعملت، فنقول: في أي شيء اجتهدت وأنت لم تطلع لا على الكتاب وتفسيره، ولا على السنة وشروحها، ولم تعرف الفقه ولم تقرأ فيه؟! وما أكثر من يجتهد كذباً من الناس! بعض الجهلة من الناس يدخل مسجداً من المساجد وإذا به يقول: الإمام يخطئ، فيقوم يصلي ركعة خامسة مثلاً أو ينسى فيصلي ثلاث ركعات ويسلم، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به هؤلاء، فتجد بعض الناس إذا نسي الإمام ركعة من الركعات يقول: أعيدوا الصلاة، والأمر لا يحتاج إلى إعادة صلاة، ولكن نسي فصلى ثلاث ركعات، إذاً بقيت ركعة فيصليها ويسجد للسهو، والأمر لا يحتاج إلى كثير كلام، فقد سها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين في صلاة رباعية وسلم منها صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل كان يلقب بـ ذي اليدين: (يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال له: لم أنس ولم تقصر، ثم نظر إلى الصحابة وقال: أكذلك؟ قالوا: نعم) مع أن من الصحابة من خرج من المسجد، ولكن بقي الأكثرون، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وصلى الركعتين الباقيتين، ثم سجد سجود السهو وانتهى الأمر.
ونسي صلوات الله وسلامه عليه التشهد الأوسط فقام صلى الله عليه وسلم وأكمل صلاته، ثم سجد للسهو ولم يحدث شيء.
وقام إلى الخامسة في صلاته صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الرباعية خمس ركعات، وسجد السهو ولم يحدث شيء.
فالحقيقة إذا سألت أهل العلم أجابوك فكان الأمر سهلاً، أما إذا استفتى الجهال بعضهم بعضاً فما أسهل ما يصعب على أنفسهم أمر دين الله سبحانه تبارك وتعالى، لكن قد يعيد الصلاة مرة ومرتين وثلاثاً لجهله في ذلك.
وقد يأتي إنسان عنده سلس بول ويستفي جاهلاً، فيقول له: أعد الصلاة إذا أحسست بقطرة الماء قد خرجت منك وسط الصلاة، فيخرج من الصلاة ليتوضأ مرة ثانية، ثم يرجع يصلي فإذا به تنزل منه قطرة ماء مرة أخرى، فيخرج ليعيد الصلاة، وهذا بسبب جهله وبجهل من استفتاه، مع أن الدين ليس فيه ذلك، فإذا توضأت للصلاة فصل، حتى ولو نزلت هذه القطرة وأنت في الصلاة، فصلاتك صحيحة، بل ويجوز لك أن تصلي بعدها النافلة وأنت على حالك هذه طالما أنك مريض بسلس البول.
فلا يفتي في هذه المسائل إلا أهل الذكر والعلم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف:١٠٩].
فأرسل الله سبحانه تبارك وتعالى رسلاً بوحي من السماء ليعلموا الناس، حتى يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الخلق ما علمه الله سبحانه، فقال في سورة النحل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:٤٣ - ٤٤]، فإن كنت لا تعرف الكتب المنزلة ولا الحجج التي جاءت من عند الله، فاسأل أهل الذكر ولا تستكبر عن السؤال.
وهنا قال لنا سبحانه تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣] فلا تستكبر ولا تأنف من السؤال إن كنت جاهلاً، أو اقرأ وارجع إلى كتب أهل العلم وستعرف الحكم الشرعي.