جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(هل تغتسل المرأة إذا احتلمت ورأت الماء؟ قال: نعم، فقالت عائشة رضي الله عنه: تربت يداك وأُلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعيها، وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك؟ إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه)، فالشبه يأتي من ماء الرجل ومن ماء المرأة.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن يهوداً سألوه عن ذلك: كيف يذكر الإنسان؟ أي: كيف يصير ذكراً؟ والأنثى كيف تصير أنثى؟ فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه الله عنهما قال:(أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء، فقالوا: يا أبا القاسم! إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك)، هؤلاء اليهود يقولون: نسألك عن خمسة أشياء إذا أجبت عنها جواباً صحيحاً فأنت نبي، ونتبعك فيما تأتينا به، قال:(فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه -يعني من العهود والمواثيق- أنهم يفعلون ما قالوا، فقال اليهود: الله على ما نقول وكيل، فقال: هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبي) وهؤلاء من أهل الكتاب، جاءوا وقد عرفوا من التوراة أجوبة هذه الأسئلة، فتجدهم يقولون: هذا رجل لم يقرأ توراة ولا إنجيلاً، ولم يطلع على كتب أهل الكتاب، فإن أجاب إجابة صحيحة عن هذه الأشياء فإنه نبي، وإذا لم يجب جواباً صحيحاً فليس نبياً، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ أي: كيف تكون علامة النبي؟ فقال:(تنام عيناه ولا ينام قلبه)، أي: أن النبي إذا نام يكون منظره أنه نائم، ويغلق عينيه، أما قلبه فهو يقض متعلق بالملكوت، متعلق بالرب سبحانه وتعالى، فقالوا:(أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر)، يعني: الجنين في بطن أمه كيف يصير أنثى وكيف يصير ذكراً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(يلتقي الماءان: ماء الرجل وماء المرأة، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكر) علا بمعنى: غلب، أي: إذا كان ماء الرجل أغلب لماء المرأة فإنه يكون ذكراً بإذن الله، قال:(وإذا علا ماء المرأة آنث، قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه)، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهو أبو يوسف عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، قالوا: ما هو الذي حرمه يعقوب على نفسه؟ قال:(كان يشتكي عرق النسا، فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان الإبل ولحومها فلذلك حرمها)، أي: أنه وجد أن الشيء الذي يلائم عرق النساء ويزيد وجعه أن يشرب ألبان الإبل، فامتنع منها، ولم يحرمها على الناس، وإنما حرمها على نفسه للعلة التي هو فيها، قال الله عز وجل:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:٩٣]، أي: قل لليهود: هذه الأشياء لم نحرمها نحن عليكم، وإنما حرمها إسرائيل على نفسه، وليس عليكم، فبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب حرم على نفسه ألبان الإبل لأنه كان يشتكي من عرق النسا، وهذا عرق يكون في فخذ الإنسان، يضرب الإنسان في فخذه إلى كعب رجله، وهذا العصب من الأعصاب يكون ألمه شديداً، فوجد أنه عندما يشرب ألبان الإبل يزيد عليه الألم، فامتنع من ألبان الإبل وحرمها على نفسه، فحرم اليهود على أنفسهم هذه الألبان، ولم يحرمها الله عز وجل عليهم.
والغرض هنا في هذا الحديث هو: أنه لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك، قالوا: صدقت، أي: كل الذي قلته صدق، (قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب، بيده مخراق من نار، يزجر به السحاب يسوقه حيث أمر الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: صوته، قالوا: صدقت)، أي: الذي تقوله موافق للذي عندنا في التوراة، ومع ذلك لا يتبعونه، بل يلجئون إلى الحيل للهرب وعدم الدخول في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي شيء واحد فقط، ما هو هذا الشيء؟ فقالوا:(هو الذي يبايعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر)، ومعلوم أن الذي ينزل على الأنبياء هو جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:(فأخبرنا من صاحبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: جبريل عليه السلام، قالوا: جبريل! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا)، فهم يعادون ملكاً من ملائكة الله سبحانه، سبحان الله! أي عقول لهؤلاء القوم حين يعادون ملكاً قد عرفوا أنه مخلوق من نور، وأنهم -أي الملائكة- لا يعصون الله، وحقيقة الأمر أنهم يعادون الله سبحانه، فجبريل لا ينزل بالعذاب من عند نفسه، وإنما يأتي بالعذاب من عند رب العالمين؛ لأنكم تستحقون ذلك، قالوا:(جبريل ذاك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالمطر والرحمة والنبات والقطر لاتبعناك).
وهذا من أعجب ما يكون! حتى نعرف كيف يجادل اليهود، وكيف يناقشون أي قضية من القضايا! فلم ينظروا إلى الرسالة التي جاءت وما فيها من رحمة للعالمين، ولا إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم من صدق وصدقوه هم، ولكن في النهاية قالوا له: لا؛ لأن جبريل هو الذي يأتيك، ولو كان آخر غير جبريل لاتبعناك، فأنزل الله سبحانه:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[البقرة:٩٧] فهذا عداء لله تعالى؛ لأنه هو الله الذي أرسل جبريل، فهؤلاء يعادون الله سبحانه، قال تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:٩٨]، فهؤلاء باءوا بعداوة الله، وباءوا بغضب من الله سبحانه، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[المائدة:٧٨]، فلعنوا بسبب معصيتهم لله سبحانه، وبسبب اعتدائهم، وبسبب إفكهم وكذبهم وافترائهم على الله وعلى ملائكة الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والغرض من هذا الحديث أن الله يذكر أنه:(يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم كيف تكون الأنثى وكيف يكون الذكر، وهذا بيد الله سبحانه، فيخلق ما يشاء ويفعل ما يريد سبحانه، ويجعل من يشاء والداً، ويجعل من يشاء عقيماً، فهو العليم الحكيم سبحانه.