تفسير قوله تعالى: (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً)
قال: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب:٤٦] فهو أول المسلمين عليه الصلاة والسلام في هذه الأمة، وهو الداعي إلى ربه تبارك وتعالى، فقد دعا الناس آحاداً وجماعات، دعا إلى الله عز وجل ليلاً ونهاراً، دعا وجاهد في سبيل الله حق جهاده فقال له ربه سبحانه: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب:٤٦].
وذكر فضله سبحانه أنه داع إلى الله بإذن الله، قد أذن له بالدعوة إليه، وقد أعانه ووفقه، فالفضل من الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:٤٦] فهو السراج المنير عليه الصلاة والسلام، والمصباح الذي يضيء، فالله عز وجل جعل القمر فيهن نوراً، والشمس سراجاً مضيئاً تضيء للخلق فيأتيهم النهار مع ضوء الشمس، والنبي صلى الله عليه وسلم السراج العظيم المنير الذي أضاء الله عز وجل به لهذه الأمة وللخلق جميعهم ظلمات الكفر والشك والضياع بنور الإيمان ونور اليقين به صلوات الله وسلامه عليه، فقال: {وَسِرَاجًا} [الأحزاب:٤٦]، وأكد ذلك أنه {مُنِيراً} [الأحزاب:٤٦].
ولاحظ الفرق بين سراج مضيء وسراج منير، فالسراج المضيء الذي فيه وهج، والذي فيه لهب، والذي فيه نار فقد يحرق الإنسان الذي يقترب منه، ولكن النور فيه برودة وإنارة، فالإنسان يجد النور فيمشي، والقمر نور، والشمس سراج، والشمس تحرق وتلهب في الصيف، بينما الإنسان يمشي في نور القمر ولا يتأذى منه، فالنبي صلى الله عليه وسلم سراج وهاج منير عليه الصلاة والسلام، فالذي يكون معه صلوات الله وسلامه عليه يجد الطيب من النبي صلى الله عليه وسلم، والطيب من القول ومن الهدى من رحمة رب العالمين سبحانه بهذه الأمة.
وهنا قد يقال: ذكر الله عز وجل أنه سراج والسراج العادة أنه يضيء فلم قال: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:٤٦]؟
و
الجواب
أن هذا تأكيد من الله سبحانه وتعالى، وقد ينير السراج للإنسان فعلاً ولكن إنارة بسيطة، ونور خافت، فأكد الله عز وجل أن النبي عليه الصلاة والسلام السراج المنير أضاء الله عز وجل وأنار به الكون كله، وليس سراجاً فاتراً.
ويأتي الأنبياء يوم القيامة إلى ربهم سبحانه والنبي قد دعا أمة ولم يستجب له أحد، ونبي استجاب له واحد، ونبي استجاب له عشرة، ونبي استجاب له أمة كبيرة، ونبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الناس في قدر من استجاب له صلوات الله وسلامه عليه فهو السراج المنير العظيم عليه الصلاة والسلام.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لما نزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:٤٥ - ٤٦] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ومعاذاً فقال: انطلقا فبشرا ولا تعسرا.
فإنه قد نزل علي الليلة آية، وذكر لهم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:٤٥ - ٤٦]).
فأمرهما أن يذهبا إلى اليمن ليبشرا الناس وقال: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا).
فالداعي إلى الله سبحانه وتعالى يكون على الأمر الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فييسر للناس ولا يعسر عليهم.
(بشرا ولا تنفرا)، التبشير بجنة الله سبحانه ومرضاة الله عمن يطيعه.
(ولا تنفرا) الإنسان قد يدعو إلى الله سبحانه ولكنه شديد، وفي أسلوبه غلظة فينفر أكثر مما يدعو، وقد يقول النصيحة اثنان، فالذي يرفق بالناس يستجيبون له ويطيعونه، والذي يتشدد على الناس ويغلظ عليهم لا يستجيب له أحد، ويمكن أن يتعارك مع أحد المنصوحين أو يشتمه.
فالإنسان الذي يدعو إلى الله عز وجل يكون رفيقاً بالناس رحيماً بهم، قال عليه الصلاة والسلام: (وإن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الشدة) ولكن الله يعطي فهذا قد يرفق بالناس فيستجيب الكثيرون، وهذا يغلظ مع الناس فلا يستجيب له أحد، مع أن هذا يدعو إلى الله وهذا يدعو إلى الله، وهذا مخلص وهذا مخلص، ولكن الفرق في الأسلوب في التعامل مع الخلق، فلذلك يتعلم الإنسان المؤمن من النبي صلى الله عليه وسلم حسن الخلق، ويتعلم منه الرفق، والتبشير والتيسير كما قال صلى الله عليه وسلم: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا).
فيبشر وييسر على الخلق حتى يستجيبوا لله سبحانه.
الناصح في دعوته الخلق لابد أن يكون أهم شيء عنده أن يستجيب الذي ينصحه، وأن يخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن الضلالة والمعاصي إلى طاعة الله قال عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس).
فالتيسير والتبشير من دين ربنا سبحانه الذي أمر به نبينا صلوات الله وسلامه عليه، قال له ربه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:١٥٩] أي: بأي رحمة عظيمة من الله قد أعطاكها، برحمة عظيمة جليلة من الله جعلها في قلبك.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:١٥٩] وهذه الآية العظيمة التي في قرآننا نجد مثلها في التوراة وشهد بذلك من أسلم كـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار فقالوا: في التوراة هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:٤٥ - ٤٦] نبياً للأميين ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يدفع السيئة بالحسنة صلوات الله وسلامه عليه.
شهد شاهد من أهلها، أهل التوراة كـ كعب الأحبار وكـ عبد الله بن سلام رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فقد دخلا في الإسلام وكانا يهوديين، أما عبد الله بن سلام فتشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى رؤيا أنه يمسك بعروة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتمسك بالإسلام حتى يموت عليه، فكانت بشارة من الله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
وأما كعب الأحبار فلم ينل هذا الحظ العظيم؛ لأنه لم يسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أسلم في زمن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكلاهما أخبر عن هذه الآية أنها في التوراة قرآها في التوراة وحفظاها بشارة بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب:٤٥] فذكر النبوة والرسالة، يا أيها المنبأ بأخبار من الغيب من الله سبحانه، يا أيها النبي الذي يوحى إليك بغيب من الله تبارك وتعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب:٤٥] أي: جعلناك رسولاً لتبلغ رسالة من عندنا، وهو هذا القرآن العظيم والوحي من عند رب العالمين سبحانه، ومبشراً لمن آمن ومنذراً لمن كفر.
وداعياً إلى الله بفضل الله فقد أذن لك بالدعوة إليه.
{وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:٤٦] أي: نوراً عظيماً، مصباحاً تضيء للخلق وتنير لهم، فدلهم على كل خير حتى تغيظت اليهود من النبي صلوات الله وسلامه عليه من كثرة اهتمامه بأمته واهتمامه بتبليغهم كل شيء، حتى إن قائلهم ليقول للمسلمين: ما يفعل بكم هذا النبي عليه الصلاة والسلام؟ ما ترك من شيء إلا علمكم حتى الخراءة، يعني: أدب الخلاء، يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت الخلاء تدخل برجلك اليسرى تقول: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
إذا خرجت قلت: غفرانك.
إذا استنجيت فلا تستنج بيدك اليمنى ولكن بيدك اليسرى، وليكن ثلاثاً واستجمر وتراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيتغيظ اليهود ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم اليهود على شيء كما حسدتكم على السلام، والتأمين خلف الإمام).
فالنبي صلى الله عليه وسلم علمكم فليسلم بعضكم على بعض، كما أمر الله سبحانه وتعالى، بقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:٦١].
فعلمهم أن يقولوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأن في كل كلمة من هذه الكلمات عشر حسنات، وعلمهم أن يسلم بعضهم على بعض حتى لو التقوا مراراً فليسلموا مراراً، فحسدتهم اليهود؛ لأنهم علموا أن السلام يزيد المحبة بين المؤمنين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
وحسدوا المسلمين على التأمين خلف الإمام، والدعاء الذي يحصل عندما يقرأ المصلي الفاتحة يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢]، فيقول الله عز وجل: حمدني عبدي.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:٣] فيقول: أثنى علي عبدي.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤] فيقول: مجدني عبدي.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] يقول: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٦ - ٧] هذا طلب الإمام، فأما المأمومون فيقولون: آمين بمعنى: اللهم استجب، فالله يستجيب لعباده، ومن المستحيل أن يدعو كل هؤلاء المؤمنون في كل الأرض يقولون: {