للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم السمر بعد العشاء]

لقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السمر بعد العشاء، فإذا صليتم العشاء فإما أن تناموا وإما أن تدعوا ربكم، وإما أن تصلوا، لكن الإنسان الذي يسهر ويلهو ويضيع وقته بعد العشاء فهذا لا ينبغي، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها)، فإن الإنسان إذا نام قبل العشاء لعله يغلبه النوم فلا يقوم لصلاة العشاء، وكان يكره الحديث بعدها؛ لأن الإنسان آخر عمل يعمله هو صلاة العشاء، والملائكة قد كتبت هذه الصلاة، وهذه الصلاة كفارة لذنوبه التي بين الصلاتين، فلا ينبغي أن يلهو بكلام تكتب عليه بسببه ذنوب مرة أخرى، فالإنسان لا يزال في المباح حتى يقع في المكروه وحتى يقع في الحرام، فعلى ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المسامرة بعد العشاء.

والكراهية للحديث بعدها إلا أن يكون في ذكر الله عز وجل وفي قراءة القرآن، وفي مدارسة العلم وتعليمه، وفي مصالح المسلمين فهذا جائز، والسهر بالليل للحراسة في سبيل الله عز وجل مباح بل فيه أجر عظيم، فقد جاء عند الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)، والليل وإن كان وقتاً للنوم لكن هذا في طاعة لله عز وجل وفي حراسة بلاد المسلمين، فله أجر عظيم على ذلك، وآخر قام يصلي ويبكي من خشية الله سبحانه وتعالى، وليس مقيداً بالليل بل إن بكى بالليل أو بالنهار فله أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.

وجاء في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرة: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم: وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وأبو بكر الصديق ذهب بهم بعد العشاء، وأهل الصفة كانوا يجلسون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد شيئاً أرسلهم إليه كجهاد ونحوه، وكانوا فقراء، يأتي وقت العشاء وليس عندهم ما يأكلون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه الذي عنده طعام واحد يأخذ معه ثانياً، والذي عنده طعام اثنين يذهب معه بثالث، والذي عنده طعام ثلاثة يذهب معه برابع وهكذا.

فـ أبو بكر الصديق أخذ ثلاثة وانطلق بهم إلى بيته رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ عشرة ليطعمهم صلوات الله وسلامه عليه، قال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم لبث حتى صلى العشاء ثم رجع فمكث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، يعني: كأن أبا بكر الصديق تعشى قبل صلاة العشاء، وبعد ذلك صلى العشاء ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمكث مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشاهد: أنه كان يسهر مع النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة وذكر وحاجات المسلمين، ففي مثل ذلك يجوز للإنسان أن يسهر بالليل، أما السمر من باب اللهو فلا، لكن من باب ذكر الله عز وجل، ومن باب الإعانة على الطاعة، فهذا جائز.

فـ أبو بكر سهر عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم فقام وانصرف، وكان قبل ذلك قد ذهب بثلاثة من أهل الصفة إلى بيته ليتعشوا.

فجاء أبو بكر رضي الله عنه بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، فقالت له امرأته: ما أخرك عن أضيافك؟ قال: أوما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء قد عرضوا عليه فغلبوهم، أي: كأنهم استحيوا ألا يأكلوا وأبو بكر الصديق غير موجود، فرفضوا أن يأكلوا في بيته حتى يأتي أبو بكر، وكان المفترض طالما أنه أخذهم للعشاء أن يأمر أهل البيت أن يعشوهم فيتعشوا وينصرفوا، ولكن رفض الضيوف حتى يأتي أبو بكر رضي الله عنه.

وفي لفظ في صحيح البخاري أن أبا بكر رضي الله عنه غضب من ذلك: لماذا تحرمونا من الأجر والثواب؟ ولماذا لم تأكلوا حتى هذا الوقت؟ فغضب أبو بكر وأمرهم أن يأكلوا، فحلفت امرأته ألا تطعم الطعام حتى يطعم، كأنها غضبت لغضب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فحلف أبو بكر ألا يأكل من الطعام، والأضياف حلفوا ألا يأكلوا حتى يأكل أبو بكر، وكأن الضيوف لهم وجهة نظر وهي أنهم لو تعشوا لربما أكلوه كاملاً فيرجع أبو بكر وهم لم يتعش فلن يجد شيئاً، فانتظروا حتى يتعشوا هم وأبو بكر، فحلف أبو بكر ألا يأكل وحلفت المرأة ألا تأكل حتى يأكل أبو بكر، وحلف الأضياف ألا يأكلوا حتى يأكل أبو بكر رضي الله عنه، لقد حلف مغضباً رضي الله تبارك وتعالى عنه بسبب الذي فعلوه، ولكن مع ذلك الرجوع للحق أحق، فلما حلف الجميع ألا يأكلوا قال: أكفر عن اليمين ونأكل، فأكل معهم رضي الله عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه).

وربنا سبحانه وتعالى قال لنا في القرآن: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:٢٢٤]، فتجعل يمينك بالله عرضة وصادة عن فعل الخير فتمتنع من الخير وتقول: لقد حلفت، بل كفر عن اليمين وافعل الخير ولو حلفت.

والمقصود أن أبا بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه أكل فأكلت المرأة وأكل الأضياف، وهنا كان العجب! قال: فجعلوا يأكلون وجعلوا لا يرفعون لقمة إلا ظهر من أسفلها أكثر منها، فكانت بركة من الله عز وجل لـ أبي بكر رضي الله عنه، جزاء ما أخذ الأضياف ليأكلوا معه وحلف ألا يأكل ثم كفر عن يمينه وأكل معهم، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا الذي حصل؟ فقالت: وقرت عيني إنها الآن لأكثر قبل أن نأكل منها، فأكلوا وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منها، فكانت من الله عز وجل بركة عظيمة أن يأكل أبو بكر ومن معه والطعام لا ينفد.

والشاهد من الحديث: أن أبا بكر كان يسهر عند النبي صلى الله عليه وسلم فيتعلم منه، حتى يقوم النبي صلى الله عليه وسلم فيقوم أبو بكر ويرجع إلى بيته رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهذا قيد للنهي عن المسامرة بعد العشاء فهي جائزة في مدارسة العلم والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك، أما في اللهو واللعب فهذا لا ينبغي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>