تفسير قوله تعالى: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون حتى جعلناهم حصيداً خامدين)
ثم رجع لمثل هؤلاء الذين قصمهم، قال: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:١٢].
أي: القوم المشركون لما جاء عذاب الله بواحدة من هذه الصور التي ذكرناها فـ {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:١٢] فإذا بالملائكة تنادي عليهم: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا} [الأنبياء:١٣] أي: ارجعوا مرة أخرى، على وجه السخرية، وإلا فأين سيسير؟ لن يفلت من الله سبحانه فتسخر منه الملائكة قائلة: {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:١٣].
كنتم أنتم مالكين كل الديار ثم ركضتم تاركين البساتين والحقول والأنهار والأموال، فارجعوا لعلنا نسألكم عن هذا المال فتعطون زكاة أموالكم.
فكانت السخرية منهم في وقت نزول العذاب عليهم، قيل لهم: {لا تَرْكُضُوا} [الأنبياء:١٣] لا تسرعوا، وارجعوا إلى ما أترفتم فيه، وأصل الركض الضرب بالرجل أو الضرب على الشيء، ومنه ركض فرسه، بمعنى: أنه ضرب برجليه على جانبي الفرس من أجل أن يجري الفرس، ويقول لنا هنا: {لا تَرْكُضُوا} [الأنبياء:١٣] فالمكان الذي كنتم أعزة فيه، والمكان الذي فيه أموالكم وأخذتم فيه من زخارف الدنيا وزينتها، ارجعوا {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:١٣] أي: عما نزل بكم من العقوبة، واسألوا الأمم من قبلكم كيف أهلكهم الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقيل: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:١٣] أي: أن تؤمنوا مرة ثانية، فيطلب منكم الإيمان، وإذا نزل العذاب لا ينفع الإيمان، فكأن كلام الملائكة سخرية من هؤلاء، فكما كانوا يسخرون من الرسل سخرت منهم الملائكة في وقت نزول العذاب، وكأنهم سمعوا هذا النداء: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا} [الأنبياء:١٣]، فبحثوا عمن يقول هذا الكلام فلما لم يروا أحداً علموا أنه خطاب من السماء، وعلموا أن الملائكة تناديهم فأيقنوا بالعذاب، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:١٤].
وهذا نداء، كأنه يقول: الويل لي والهلاك، ينادي على نفسه بالهلاك، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:١٤]، اعترفوا في وقت لا ينفعهم فيه الاعتراف، وندموا حين لا ينفع الندم، فانتهى أمر الله سبحانه، وجاء العذاب من عند ربنا فما قدروا على شيء، فقولهم: {يَا وَيْلَنَا} [الأنبياء:١٤] لا ينفعهم بشيء.
قال تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:١٥].
أي: حصدناهم جميعاً كالزروع أو الثمار التي تجنى وتحصد، فخمدت أنفاسهم، وضاعوا بتضييعهم رسل ربهم وبتضييعهم كتب الله سبحانه تبارك وتعالى، ففيها عظة عظيمة لكل إنسان مؤمن، أنه إذا اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع كتاب الله الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان القرآن معه في الدنيا ومعه يوم القيامة، فانتفع هذا الإنسان، وإذا جعل القرآن وراء ظهره دفعه إلى نار جهنم، ففي الدنيا يسلط الله عز وجل عليهم من يشاء من مؤمنين أو كفار فيبيدونهم في الدنيا، ويوم القيامة يعذبهم الله العذاب الأكبر.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.