[تفسير قوله تعالى: (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير)]
قال تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٤] أي: يهلك ويدمر ويغرق السفينة بذنوب العباد، فإذا أغرق السفينة فبسبب ظلم أهلها، ويعفو عن كثير.
يركب الإنسان السفينة وهو ماشٍ بقضاء الله وقدره، وليس ذلك بحذق الملاح ومهارته، وقد سمعنا قصة مركب المعتمرين من الإسكندرية، فبينما هم قد قاربوا البر وأصبح أمامهم، إذ جاءهم مركب آخر للبضائع فاصطدم بمركبهم فخرقه، لكن من رحمة الله بهم أن بقي مركبهم ملتصقاً به حتى نجوا بأنفسهم وأنقذ الله ألفاً وأربعمائة ومات واحد أو اثنان.
قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:٦٥].
كان أهل الجاهلية إذا ركبوا السفينة نادوا: يا رب يا رب! حتى إذا نجوا رجعوا يعبدون اللات والعزى من دون الله سبحانه وتعالى.
ومن هؤلاء عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة فر هارباً؛ لأنه من ضمن من أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وكانوا أربعة من أهل الكفر وامرأتان قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة).
فقد روى الإمام النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة).
فالأول: عكرمة بن أبي جهل، والثاني: عبد الله بن خطل، والثالث: مقيس بن صبابة، والرابع: عبد الله بن سعد بن أبي السرح.
فكان كل واحد منهم له عمل في الكفر يؤذي به النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان من أشدهم كفراً عكرمة وأبوه أبو جهل الذي قتل يوم بدر.
ومشى على طريقته ومنواله عكرمة بن أبي جهل، فظل يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤذي المسلمين، ولا يجد موطناً يكيد فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقاتل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا وفعل ذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هؤلاء الأربعة، وامرأتين، قتل منهم اثنان، وتاب اثنان ودخلا في الإسلام، والله يمن على من يشاء.
ويذكر عكرمة بن أبي جهل أنه خرج من مكة هارباً فركب السفينة فأصابتهم عاصفة، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا، وكان أصحاب السفينة كفاراً.
وقد ذكرنا في قصة الحصين أبي عمران بن حصين الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً تعبد؟ فقال: ستة، واحد في السماء وخمسة في الأرض.
فقال له: من الذي ترجو؟ قال: الذي في السماء.
قال: يا حصين! كيف تعبد من لا تنتفع به؟) ثم أسلم بعد ذلك حصين رضي الله عنه.
فهم كانوا يعبدون هذه الآلهة، وعندما يسألون عنها يقولون: ما نعبدها إلا لتقربنا إلى الله زلفى، فكانوا يعبدون هذه الأصنام لئلا يأتي إليهم من يقول لهم: اعبدوا الذي أنا أعبده، فكل واحد له إله يخصه؛ إنها عنجهية الجاهلية والعصبية والاستكبار؛ لذلك تركوا دين النبي صلى الله عليه وسلم استكباراً، لا لأنه ليس على الحق، فهم يعرفون أنه الحق، ولكن قالوا: لا نتبعك لأنك ستأمرنا وتنهانا.
قال ربان السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا، فعند ذلك استيقظ عكرمة من غفلته بعد سنين طويلة في معاداة الله ومعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره.
وقال: اللهم إن لك عليّ عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفواً كريماً.
فجاء فأسلم رضي الله تعالى عنه.
وكان بعض المسلمين يذكر أمامه أباه، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك وقال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) وجاهد عكرمة في سبيل الله جهاداً عظيماً رضي الله تعالى عنه، فلما كانت وقعة اليرموك بين المسلمين والروم في أول خلافة عمر رضي الله عنه، وكانت حرباً شديدة جداً، فمر به رجل ورآه يقاتل قتالاً شديداً حتى قتل، فوجدوا فيه بضعة وسبعين ما بين ضربة وطعنة ورمية.
وكان عكرمة قبل ذلك يقول: من يبايع على الموت؟ فبايعه جماعة من المسلمين، وكان يقول رضي الله عنه: إني ما تركت موطناً إلا وقاتلت فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا أجد موطناً أدافع فيه عن هذا الدين إلا وقاتلت فيه.
فقاتل وقتل شهيداً رضي الله عنه.
والثاني الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله: عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان قد أسلم، وكان يجيد القراءة والكتابة، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعتبر من كتاب الوحي، ثم فتن بالدنيا، وارتد عن دين الله عز وجل، وهرب إلى الكفار يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، وينفر الناس عن الدين، ويقول: أنا الذي كنت أكتب هذا القرآن، أنا الذي كنت أملي هذا القرآن، فالقرآن من تأليفي.
فينسب لنفسه أشياء لم يكن له، وكان كاذباً فيها، وهذه فتنة للكفار، وفتنة للمسلمين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله.
وكان أخاً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة إذا بـ عثمان يأتي به للنبي صلى الله عليه وسلم، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنه، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يبايعه.
وظلا منتظرين، فإذا بـ عثمان يلح على النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبايعه، وفي النهاية حقن دمه وتركه، وكأنه وجد على المسلمين فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم لهذا فيقتله -بما صنع من كفر وردة، وآذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وآذى المسلمين- قالوا: يا رسول الله! هلا أشرت لنا بعينك، قال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين).
الثالث ممن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وقتل: عبد الله بن خطل، وهو رجل من الذين كفروا بالله تبارك وتعالى، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان مسلماً وارتد عن دين الله، وذهب إلى مكة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم هذا الرجل قد أرسله ليجمع الصدقات، ومعه مولى من المسلمين، فلما خرج في الطريق أمر هذا المولى أن يصنع الطعام، ثم نام، فلما وجده لم يصنع الطعام قتله، وهرب ورجع مرتداً إلى الكفار، ثم أتى بمغنيتين تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم في مجالس الخمر لقريش، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهما.
والرابع هو: مقيس بن صبابة وقد قتل، وهذا الرجل كان قد أسلم هو وأخ له اسمه هشام، فقتل أحد الأنصار أخاه، وبحثوا عن القاتل فلم يجدوه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يدفعوا الدية له، فأخذ الدية، وبعدما أخذ الدية قتل رسولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه، فأخذ الدية، وقتل رجلاً مظلوماً، ثم ارتد وفر إلى مكة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقتل.
فهؤلاء الأربعة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وكذلك المرأتان اللتان كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وسب دين الله عز وجل، وعفا عن ألوف من أهل مكة، وهم كفار في ذاك الحين، وقد رد ربه سبحانه وتعالى ذلك إلى اختياره إن شاء أن يعفو، وإن شاء أن يقتل، فعفا صلوات الله وسلامه عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.