تفسير قوله تعالى:(ولما ضرب ابن مريم مثلاً وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل)
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف:{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}[الزخرف:٥٧ - ٥٩].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن شأن عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأنه عبد من عباد الله جعله الله نبياً ورسولاً، وأرسله إلى بني إسرائيل وجعل معه معجزات، فجعله مثلاً لهؤلاء، ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)) أي: أن قريشاً جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم لبعض: ما يريده محمد إلا أن نجعله كالمسيح بن مريم، يريد منا أن نعبده، فافتروا عليه صلوات الله وسلامه عليه حسداً له؛ لما آتاه الله عز وجل من نبوة وحكمة وآتاه هذا القرآن العظيم.
وحسدوه ونفسوا عليه ما هو فيه، وقال بعضهم لبعض: زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال ابن الزبعري: لو كنت عنده لناظرته ولخصمته في ذلك، قالوا: ما كنت تقول؟ قال: كنت أقول: إننا نعبد هذه الآلهة والنصارى تعبد المسيح عليه الصلاة والسلام، فإذا كنا نحن وما نعبد من دون الله حصب جهنم فالمسيح في نار جهنم فلما قال لهم ذلك فرحوا وهللوا وظنوا أنهم قد غلبوا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الباطل الذي يقولونه، فإذا بالله سبحانه وتعالى يجيب هؤلاء ويقول:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}[الأنبياء:١٠١] أي: ليس المسيح عليه الصلاة والسلام ممن ارتضى أن يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، ولا ذنب له في ذلك، بل الذين عبدوه هم الذين يستحقون هذا العذاب، أما هو فهو بريء من ذلك.
فأخبر الله سبحانه وتعالى هنا عن المسيح عليه الصلاة والسلام بقوله:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}[الزخرف:٥٩] يعني: شهد الله عز وجل له بهذا المقام العظيم، مقام العبودية لرب العالمين، أي: ما هو إلا عبد، كما قال عن النبي صلى الله عليه وسلم:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}[الإسراء:١] وقال تعالى عنه صلى الله عليه وسلم: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}[الجن:١٩] فالنبي صلى الله عليه وسلم عبد ورسول لرب العالمين سبحانه وتعالى، والمسيح كذلك عبد ورسول لرب العالمين سبحانه.
قال هنا:((إِنْ هُوَ)) أي: ما المسيح ((إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)) أي: أنعم الله عز وجل عليه بهذا المقام أنه عبد آتاه الله الكتاب وآتاه الله الحكمة، وجعله رسولاً من أولي العزم من الرسل، ((وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: جعله الله عز وجل لهم آية من الآيات، فقد كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، ويخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وببعض الغيوب التي لا يعرفونها، فالله عز وجل جعله عبداً وجعله آية وعبرة لبني إسرائيل، هذا معنى المثل في هذه الآية.