[تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجعون أيام الله)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:١٤ - ١٧].
في هذه الآيات يأمر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يقول للمؤمنين الذين يدعون إلى الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)) والمعنى: أن يتحملوا الأذى في سبيل الله عز وجل، فالداعي إلى الله لا بد أن يمتحن ويبتلى، فأمرهم الله أن يصبروا حين يبلغون دين الله عز وجل ورسالته، وأن يتحملوا الأذى في سبيل ذلك، وقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة الأذى الشديد، حتى أذن الله عز وجل له بأن يهاجر إلى المدينة.
وفي المدينة كذلك تحمل أذىً شديداً من الكفار حتى أسلم الكثيرون منهم، وتحمل الأذى الشديد من المنافقين ومن أنصارهم من اليهود، فكان يصبر صلوات الله وسلامه عليه حتى أمره الله عز وجل بأن يجاهد في سبيله سبحانه، فجاهد صلوات الله وسلامه عليه، فنصر الله عز وجل دينه بجهاد نبيه وجهاد المؤمنين.
فالداعي حين يدعو إلى الله عز وجل عليه أن يتسم بالحلم وبالصبر، يقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:١٢٥] فإذا استجاب المدعو فلله الحمد، وإذا لم يستجب فإما أن هذا المدعو يرجى من ورائه الخير، أو لا يرجى من ورائه الخير، بل يتسبب في أذى، فالأول يصبر عليه لعله يدخل في دين الله عز وجل، والثاني الذي يؤذي الإسلام والمسلمين، ويتعرض لدين الله عز وجل بالمنع والأذى؛ فهذا يجاهد بالسيف والسنان وبالقوة واللسان، بحسب ما يقدر عليه.
فالمؤمن الذي يدعو إلى الله عز وجل ينبغي عليه ألا يؤاخذ الكافرين أو المدعوين على كل خطأ يصدر منهم، وإنما عليه أن يتغافل عنهم لعلهم يستجيبون إلى دين الله عز وجل، ويدخلون فيه.
ولو أن كل إنسان حوسب على كل ما يقوله لأخذ الله عز وجل الناس جميعاً بذنوبهم، ولكن الله عز وجل يعفو عن كثير {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠].
فهذه معاملة الله عز وجل للعباد، وكم من كفار كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذون المسلمين سواء في مكة أو في المدينة، ثم من الله عز وجل عليهم بعد ذلك فأسلموا لله رب العالمين سبحانه وحسن إسلامهم.
فالغرض: أن الذي يدعو إلى الله عليه أن يتحمل في سبيل الدعوة إلا أن تنتهك حرمات الله فلا صبر ولا حلم ولا انتظار، فالله قد شرع دفع المضرة من الكفار بالجهاد في سبيله سبحانه، فيكون الصبر على الشيء الذي مثله يصبر عليه، أما إذا كان شيئاً قد أوجب الدين الجهاد في سبيل الله بسببه، فإنه يجب على المسلمين أن يجاهدوا كما أمرهم الله سبحانه، وقد أمرهم أن يعدوا، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:٦٠].
إن أعداء المسلمين كثيرون، وقد يكونون معروفين وقد لا يكونون كذلك، والمعروفون قد يكونون أصدقاءً للمسلمين، أو معهم في ديارهم، ويظهرون لهم المحبة، ولكن الله أعلم بما في قلوبهم، وأنها ليست مع المسلمين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر، ولذلك حذر الله عز وجل نبيه وحذر المؤمنين من المنافقين، الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر، وذكر أوصافهم في سورة براءة، وفي سورة المنافقين، وفي سورة البقرة.
وقول الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)) فيه أن هذا الكافر لا يرجو حساباً، ولا بعثاً، فإذا دعي أن يدخل في الدين يقول: لا، {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤] هي الدنيا ولا حياة أخرى، فيجادل بالباطل، فالله يدعو الدعاة إلى الصبر إزاء هؤلاء وإلى الجدال بالحكمة والموعظة الحسنة.
وليس ذلك لمن ينكر أشياء من الدين، أو يتعرض لسب الدين، إنما الجدال للكفار الذي يقول مثلاً: إن الآلهة متعددة وليس هناك إله واحد، كقول الكفار من قبل: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥].
فيجادل بالتي هي أحسن كما جادل إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وكما جادل النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: ((يَغْفِرُوا)) أي: يتجاوزوا عن هذا الذي يقوله الكفار، ويستمرون في دعوتهم، لعل هؤلاء يستجيبون إلى الله عز وجل.
وقوله: ((لِيَجْزِيَ قَوْمًا)) كأن اللام للعاقبة والمعنى لأجل أن يجزي الله قوماً بما كانوا يكسبون.
وقوله: ((لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) هذه قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب وعاصم، وقرأ أبو جعفر: (ليُجزَى قوماً بما كانوا يكسبون) والتقدير: ليُجزَى الخير قوماً، أو ليجزي الله عز وجل بالخير قوماً وبالشر قوماً، وكأنها بمعنى يعطي على قراءة أبي جعفر، فتنصب مفعولين والتقدير: ليجزي الله الخير قوماً، أو: ليجزي الله الشر قوماً.
وباقي القراء منهم حمزة والكسائي وخلف وابن عامر يقرءونها: (لنجزي قوماً بما كانوا يكسبون) والنون نون العظمة فالله عز وجل يقول: نحن نجزي هؤلاء القوم بما اكتسبوا في الدنيا من حسنات ومن سيئات.
وتنكير (قوماً) للتعظيم هذا إذا كان القوم من المؤمنين، أما إذا كانوا من الكافرين فيكون التنكير تحقيراً لهم، وهذا من أهداف التنكير فقد يكون للتعظيم، وقد يكون للتحقير، فهنا الله عز وجل يقول: ليجزي قوماً، فإذا كانوا مؤمنين فهم أعظم وأفضل الأقوام، فنكر قوماً لتعظيمهم، وإن كانوا من الكافرين فهم أحقر الأقوام، وأي قوم هم في البعد عن الله عز وجل فالله يجزيهم بما كانوا يكسبون من سيئات، فكأن قوماً هنا عائدة على المؤمنين وعلى الكافرين، كل بما كسب.