[تفسير قوله تعالى: (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا)]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:١٠٩ - ١١٨].
هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة سورة المؤمنون، يذكر الله سبحانه وتعالى فيها الجزاء الذي يكون يوم القيامة، وأن الناس في هذا اليوم العظيم منهم من تثقل موازينه، ومنهم من تخف موازينه، قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:١٠٢ - ١٠٣].
هؤلاء الخاسرون خسروا أعظم شيء عندهم وهي أنفسهم، فالإنسان قد يخسر أي شيء ويصبر على هذا الخسران، ولكن أن يخسر نفسه فيكون في نار جهنم فهذا هو الخسران المبين.
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:١٠٤] فإذا دخلوا نار جهنم والعياذ بالله لفحت النار وجوههم، وتبقى آثار لفحها على وجوههم، {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:١٠٤] قد تشوهت وجوههم وعبست.
ويناديهم ربهم سبحانه: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:١٠٥] وهذا فيه تبكيت لهم من ربهم، أي: قد جاءكم هذا القرآن العظيم فلم تعملوا به، واتخذتموه وراءكم ظهرياً وكنتم به تكذبون.
قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:١٠٦].
فأرادوا أن يحتجوا بالقدر يوم القيامة، أي: أنك كتبت علينا الشقاوة في الدنيا فصرنا إلى النار، فلم يسمع الله لقولهم؛ لأن الإنسان يعلم وهو يعمل الشيء الحسن أن هذا حسن، ويفعله وهو قادر على فعله، ويرى في نفسه القدرة على عمل الصالحات وترك السيئات.
فهو مختار مكتسب للحسنات أو للسيئات، والله يوفق من يشاء من عباده سبحانه ويهدي من يشاء.
فذكر تعالى أنهم طلبوا الرجوع إلى الدنيا، فقالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:١٠٧]، فكان الجواب عليهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨]، أي: ابقوا في نار جهنم مطرودين من رحمة رب العالمين سبحانه، كالكلب حينما يطرده الإنسان.
ثم ذكر تعالى أن من أسباب دخول هؤلاء النار أنهم كانوا يستهزئون من المؤمنين، فالمؤمنون في الدنيا كانوا يدعون ربهم سبحانه، ويدعون إليه سبحانه، والكافرون كانوا غالبين قاهرين، فنظروا إليهم بنظرة استهزاء واستخفاف، فسخروا منهم وعذبوهم، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:١٠٩].