والغرض أن النسخ له حكمة من الله عز وجل، منها التدريج في التشريع كما هنا، ومنها أن الله عز وجل يختبر عباده هل يطيعونه أم أنهم يتشككون ويرتابون في الدين؟ فإذا به ينسخ أشياء سبحانه وتعالى، ويبقيها في كتابه مثل عدة المرأة التي توفى عنها زوجها فذكر الله عز وجل حكمها بقوله:{مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}[البقرة:٢٤٠]، أي: أن المرأة تمكث في بيتها معتدة حولاً كاملاً.
ثم خفف الله سبحانه وتعالى ذلك وقال:{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:٢٣٤]، فحكمة النسخ هنا هي التخفيف.
وقد يكون من الحكم فيها التثقيل وذلك بأن يشدد على العباد بشيء، أو التثقيل مع التخفيف مثل أمره بالصيام، فإن أول ما فرض الصيام على العباد كان من العشاء إلى غروب شمس اليوم الثاني، أي: يصومون ثلاثة وعشرين ساعة في اليوم أو نحو ذلك فهذا كان ثقيلاً عليهم، ولكن مع هذا التثقيل جعل تخفيفاً وهو أنه من شاء أن يصوم فليصم، ومن أراد الفطر فله ذلك لكن بشرط أن يطعم مسكيناً بدلاً عن ذلك اليوم، كما قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة:١٨٤]، فلهم أن يصوموا ولهم أن يفطروا ولكن يطعمون مسكيناً مكان إفطارهم.
فهنا تثقيل في شيء وتخفيف في شيء آخر، ثم نسخ بعد ذلك بالأمر بالصيام، فكان فيه شيء من التخفيف وشيء من التثقيل إذ لابد أن تصوم، كما قال تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:١٨٥]، وخفف في شيء آخر وهو قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[البقرة:١٨٧].
فجعل هنا تخفيفاً وهو الصيام من الفجر إلى غروب الشمس، فقد كان فيه تثقيل فنسخ الأثقل بالأخف، وكان هناك تخفيف من ناحية التخيير فنسخ الأخف بالأثقل والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى.
ومن الحكم أيضاً ابتلاء العباد؛ لأن العبد مخلوق ليطيع الله تبارك وتعالى، فإذا أمر بطاعة فلابد أن يجعل له اختياراً؛ لينظر هل يختار الطاعة أم أنه يأنف من ذلك ويرفض ويستكبر ويترك طاعة الله سبحانه وتعالى؟ ومن ذلك ما نسخ من آيات كاملة وإن بقي من أحكامها، وذلك مثل نسخ الآية التي كانت في سورة الأحزاب وهي:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، فقد كانت آية في سورة الأحزاب ثم نسخت تلاوة وبقيت حكماً.
فرفع الله عز وجل تلاوتها، لكن أبقى حكمها وهو أن الإنسان إذا كان محصناً أي: متزوجاً سواء كان صغيراً أو كبيراً ووقع في الزنا فعليه الرجم، والآية ذكرت الشيخ والشيخة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم جارية حتى فيمن هم دون ذلك فرجم ماعزاً، ورجم الغامدية اللذين زنيا.
فالغرض أن الله سبحانه وتعالى قد ينسخ الآية تلاوة ويبقي حكمها، فهذه السورة من السور التي كانت آياتها أكثر من ذلك فرفع الله عز وجل ما شاء منها وبقيت هذه الآيات الثلاث والسبعون محكمة، وأمر الله عز وجل فيها بما شاء.