إن من جمال القرآن في تعبيراته وبلاغته، احتماله للمعاني الكثيرة التي تكون كلها صحيحة، فيكون الاختلاف اختلاف تنوع، فالله سبحانه يقول:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا}[يس:٨]، إما أن يكون يوم القيامة وهم يحاسبون، أو وهم في النار، أو وهم في الدنيا جعل في أعناقهم ذلك دليلاً على المنع والحجز عن شيء أرادوه، فكل هذه المعاني صحيحة.
والقيد: الرباط الذي يوثق به الإنسان، سواء كان من حديد أو من غيره، توضع في رجله سلسلة يقيد بها في الأرض.
والغل: السلسلة التي تجمع يدي الإنسان إلى عنقه، فتكون اليدان مربوطتين إلى العنق في سلسلة، والرأس مرفوع إلى فوق، والذل عليه فنظره أسفل، فهو مقمح ذليل لا يقدر أن يحرك رأسه، قال تعالى:{فَهُمْ مُقْمَحُونَ}[يس:٨]؛ بسبب هذا الوضع الذي يكونون عليه يوم القيامة.
قال تعالى:{إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}[غافر:٢٦ - ٧٢]، هذا حالهم يوم القيامة.
ولذلك إذا رأى الإنسان في منامه الغل فإن ذلك يعني شيئاً سيئاً، وإذا رأى القيد في منامه كان شيئاً حسناً، فالقيد ثبات على الدين.
فقوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ}[يس:٨]، يعني: أيديهم مغلولة تحت أذقانهم، مربوطة بسلاسل في أعناقهم.
وقوله:{فَهُمْ مُقْمَحُونَ}[يس:٨]، أي: أن الوضع ضيق عليه، فلا يقدر أن يوطئ رأسه فيستريح؛ لأن رأسه مرفوعاً، وعينيه ذليلتان تنظران إلى أسفل.
فالإقماح: رفع الرأس وغض البصر، ورفع الرأس هنا ليس من عزته؛ لأنه مجبر على ذلك.
والمعنى الآخر لقوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ}[يس:٨]، أن هذا تمثيل، لما جعلهم الله عز وجل في الدنيا كمثل هؤلاء الذين رءوسهم مرفوعة، وأبصارهم خاشعة ذليلة، لا يقدرون على النظر، ولا يقدرون على شيء.