للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (ألم تكن آياتي تتلى عليكم وكنا قوماً ضالين)

ثم قال لهم ربهم سبحانه: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:١٠٥] فيبكتهم ربهم ويقررهم على ما كانوا عليه في الدنيا: أليس كان القرآن يتلى عليكم؟ ولماذا لم تصدقوا به بل كنتم به تكذبون؟ وسيكون جوابهم على سؤال ربهم: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:١٠٦]، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (ربنا غلبت علينا شقاوتنا)، أي: كنا في شقاوة في الدنيا، ولها معاني: المعنى الأول: غلب علينا ما كنا فيه من لذات وشهوات وشبهات، فكنا من أهلها وضيعنا أنفسنا، وهذا معنىً صحيح.

ومعنىً آخر: أنهم قالوا ذلك لربهم سبحانه: غلبت علينا شقوتنا أي: حسن ظننا بأنفسنا أننا لن نعذب، وأنك كما أعطيتنا في الدنيا ستعطينا يوم القيامة فلم نعمل صالحاً.

وهذه مصيبة الإنسان أن يحسن الظن بنفسه ويظن أن إعطاء الله له في الدنيا دليل على أنه يحبه، ولذلك ترى الإنسان إذا كسب مكسباً فإنه يقول: ربنا يحبني لأنني كسبت هذا النهار كذا! وما يدريه أنه يحبه أو يبغضه، وكونه يعطيه من الدنيا ليس دليلاً على المحبة، وإلا لو كان هذا محبة لكان أولى بها النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يبيت أحياناً ويطوي صلى الله عليه وسلم على بطنه من شدة الجوع، وكانت النار لا توقد في بيته الشهر والشهرين والثلاثة صلوات الله وسلامه عليه، وإنما كان يأكل الأسودين التمر والماء عليه الصلاة والسلام، فإعطاء الله عز وجل العبد في الدنيا ليس دليلاً على محبته وليس دليلاً على أنه سوف يعطيه يوم القيامة.

المعنى الثالث من المعاني: أنهم احتجوا بالقدر واعتذروا به، فقالوا: مثلما أنت تقول في الدنيا: قدر الله وما شاء فعل، فهذا قدر الله عز وجل، فقالوا ذلك على وجه الحسرة: أنه غلبت علينا شقوتنا، أي: ربنا كتب عنده أننا معذبون، وهانحن عذبنا بما كتبه الله عز وجل، وربنا إذا حاسبهم لن يقول: قدرت عليكم كذا فأدخلتكم النار، وإنما يقول: عملتم كذا، فيسأل الإنسان عن عمله وليس عن قدر الله سبحانه وتعالى.

وأمر القدر مبني على علم الله وحكمته وقدرته سبحانه وتعالى، فهو على كل شيء وتقديره لكل شيء، وهذا أمر أمرنا أن نؤمن به، أما أن تحتج به فلا ينفعك الاحتجاج بالقدر؛ لأنك تعمل الحسنة وتجد نفسك قادراً على فعلها، ومختاراً أن تفعل أو تترك.

والله عز وجل علم أنك تفعل، وقدر أنك تفعل، ولكن أعطاك اختياراً فاكتسبته باختيارك، ولم تستشعر وأنت تعمل الحسنة أنك مجبر عليها، وفي وقت فعل السيئة أيضاً لا تستشعر أنك مجبر عليها وإنما تفعلها باختيارك.

وقد أمرنا الله تعالى أن نؤمن بالقضاء والقدر، وأن الله قدر وعلم سبحانه وكتب عنده سبحانه وتعالى، وأن ما علمه مستحيل أن يغير، ولكن حين نعمل نحن نستشعر بالاختيار وبالكسب في العمل، فالإنسان عندما يأكل فهو قادر أن يمسك اللقمة وأن يضعها في الإدام أو في الملح أو في الحلو، ومختار أن يأكل هذا أو يتركه، ولم يقل في هذه الحال: القدر جعلني آكل هذا وأترك هذا.

فكذلك العمل، فكما قدر الله عز وجل لك قوتك أن تأكله ومكتوب عنده ذلك، كذلك قدر عنده سبحانه أنك تعمل هذا الخير أو هذا الشر، فهذا الأمر نؤمن به، أما العمل فيلزمك أن تعمل الخير وأن تترك الشر، فأنت محاسب على اكتسابك خيراً أو شراً، ولن يقول الله للناس يوم القيامة: ادخلوا النار لأنني كتبتها عليكم، ولكن يقول: جزاءً بما كنتم تعملون.

فلما احتج هؤلاء بالقدر أنه ساقهم إلى النار وأنهم ضلوا في الدنيا وتاهوا عن طريق الجنة لم يسمع منهم ذلك.

<<  <  ج:
ص:  >  >>