للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مراحل خلق الإنسان]

قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر:٦٧]، وذكر في سورة المؤمنون العجب العجاب، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:١٢ - ١٣]، فقد كانت النطفة في صلب الرجل واستقرت في رحم المرأة، قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ} [المؤمنون:١٤] من جزء واحد من ملايين الحيوانات المنوية، وهو الذي ينجح في أن يصل إلى البويضة فيلقحها، والله يجعل من يشاء عقيماً فلا يصل شيء من ملايين الحيوانات المنوية إلى بويضة المرأة، والمرأة تفرز بويضة واحدة في كل شهر، وأما الرجل ففي دفقة من دفقات المني تخرج منه ملايين الحيوانات المنوية، التي قد تلقح البويضة وقد لا تلقحها، والذي يلقح البويضة هو حيوان واحد منها فقط، ثم يحدث التخليق والانقسام، أي: كل واحد ينقسم إلى اثنين، حتى يصير في النهاية جنيناً في بطن أمه.

قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:١٤]، وهذا الترتيب ترتيب سريع، ولذلك أتى بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب مباشرة، ففي خلال اثنين وأربعين يوماً يتكون الجنين في بطن الأم، ويتخلق في خلال هذه المدة، ثم يبعث الله إليه الملك ليصور سمعه وبصره، ويصور جنسه ذكراً أو أنثى، ويكتب عليه شقي أو سعيد، ويكتب ما يكون عليه هذا الإنسان في هذه الدنيا من عمل، ويكتب رزقه، ومصيره، يقول سبحانه: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:١٤].

وهذه التصويرات الدقيقة العجيبة من نطفة واحدة في القرار المكين، فإن الرحم عندما تدخل النطفة فيه فإنها تنقسم وتتحول إلى علقة كشكل الدودة، وتتعلق في جدار الرحم وتستقر فيه، ثم تتحول هذه العلقة إلى مضغة، فتصبح وكأنها قطعة من اللحم الممضوغ بالأسنان، والذي تكون فيه علامات الأسنان، فتكون على هذه الهيئة، ويكون طولها وهي في بطن الأم مضغة حوالي عشرة سنتيمترات.

قال تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:١٤]، أي: فخلق الله هذه القطعة الصغيرة المضغة عظاماً، قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:١٤]، يقول الشيخ الزنداني: إنه سأل بعض علماء المسلمين: أيهما يتكون أولاً العظام أم اللحم؟ قال: فكان جوابه سريعاً وقال: اللحم.

قال: فرجعنا إلى القرآن فإذا هو يقول: إن العظام تخلق أولاً، قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:١٤]، فراجع الأمر ثم قال: إنه أخطأ في كلامه، وإن العظم يتكون أولاً وبعد ذلك اللحم.

قال: وسألت بعض العلماء الأجانب في ذلك فكان جواب الجميع: أن العظم يتكون أولاً وبعده اللحم.

وصدق الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:٥٣].

قال الله سبحانه: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:١٤]، أي: خرج من مرحلة التخليق إلى مرحلة تصوير السمع والبصر والجنس، فخرج خلقاً آخر، وهو هذا الإنسان العجيب، ثم ختم سبحانه بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} [المؤمنون:١٤]، أي: تعالى وتمجد سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٤]، أي: أحسن المقدرين والمنشئين للشيء، والموجدين له من العدم إلى الوجود.

وهنا يأتي سؤال وهو: هل هناك خالق غير الله عز وجل حتى نقول: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٤]؟

و

الجواب

أن الخلق له معانٍ، فمن معانيه: الإيجاد، نقول: هذا مخلوق أي: موجود أوجده الله سبحانه وتعالى.

ومن معاني (خلق): فطر، أي: أنشأ على غير مثال سابق.

ومن معاني (خلق): قدر، فقولنا: هذا مخلوق، أي: مقدر قد قدره الله سبحانه، ولذلك يقول بعضهم: ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض الناس يخلق ثم لا يفري فهو يقول: إن الله يقدر ما خلق، فيخلقه كما قدره، وبعض الناس قد يقدر الشيء ثم لا يستطيع عمله كما قدر.

إذاً: فقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٤] أي: أحسن المقدرين، الذي يقدر فيوجد الشيء على ما يريده، وهذا من معاني الخلق، وقد يكون في الناس شيء من هذا الوصف كما نقول: الله الرحمن الرحيم، فمن صفته تعالى الرحمة، وجعل في الناس الرحمة، وفرق بين رحمة المخلوق ورحمة الخالق سبحانه وتعالى، فرحمة الله تليق به جل جلاله، ورحمة المخلوق تليق به كمخلوق لله، وكذلك صفة الحياة، فحياة الله لائقة به، وللمخلوق حياة لائقة به.

وكذلك الخلق على معنى التقدير، فإن الإنسان يقدر ويفكر في كيفية عمل الشيء ثم قد يكون وقد لا يكون، وأما الله عز وجل فلا يقدر شيئاً إلا ويوجد على الهيئة التي قدره عليها سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٤]، أي: أحسن من يقدر ومن يوجد ومن يخلق، سبحانه وتعالى ويدبر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>