قال الله تعالى:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ}[الروم:٣١]، وهذا بعد أن قال:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ}[الروم:٣٠]، فكأنه أمر له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالتبع، ولذلك جمع بعد ذلك وقال:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ}[الروم:٣١]، إذاً: فأقم وجهك أنت والمؤمنين في حال كونكم منيبين إلى الله، راجعين إليه، تائبين إلى الله سبحانه.
فقوله:(مُنِيبِينَ) الإنابة: هي الرجوع بالتوبة وبالإخلاص لرب العالمين سبحانه، والإقبال على الله بطاعته، أي: راجعين، خاضعين، خاشعين له سبحانه وتعالى.
ومن معاني الإنابة أيضاً: التوبة من الذنوب، يقال: أناب إلى الله أي: رجع إلى الله، ومن معاني الإنابة: الانقطاع عن المعصية، ومنه سمي ناب الإنسان ناباً؛ لأنه يقطع به، فكأن الإنابة مأخوذة من ذلك، فالإنابة بمعنى: الانقطاع عن المعصية، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
قال:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ}[الروم:٣١] أي: واتقوا غضب الله سبحانه وتعالى، واتقوا نار الله، وافعلوا الطاعات التي تقيكم من عذاب رب العالمين سبحانه.
قال:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}[الروم:٣١](فاتقوه): عموم، أي: اتقوا الله في كل شيء، ومن تقوى الله سبحانه ما خصه هنا بإقام الصلاة، وبالنهي عن الشرك بالله سبحانه.
قال:{وَاتَّقُوهُ}[الروم:٣١] أي: خافوه وامتثلوا ما أمركم به، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}[الروم:٣١]، ونلاحظ أنه كلما جاء في القرآن الأمر بالصلاة قال لك:(أقيموا الصلاة)، (أقم الصلاة)، وليس مجرد الأمر بالصلاة فقط، فيكون أي إنسان صلى أي صلاة وانتهى فقد صلى! بل عندما يقول:(أقيموا الصلاة)، (أقم الصلاة)، فيكون أصلها هنا من الاستقامة والاعتدال، والاطمئنان في الصلاة، فتصلي صلاة مودع، وكأنها آخر صلاة تصليها، فإذا صليت صلاة فأحسن هذه الصلاة واعتدل فيها، وهو كقولهم: خذ العود وقومه حتى ينفع ويكون رمحاً قوياً، فتأخذ العود وتعدله على النار شيئاً فشيئاً إلى أن يصير مستقياً، فعندما ترميه لا يحيد عن هدفه ولا يعوج.
وكذلك يجب عليك أن تقوم الصلاة لتصعد إلى السماء ولا ترد عليك، وكم من إنسان يصلي صلاة فلا تقبل منه، وقد تقبل منه بعض الصلاة دون بعضها؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله:(فيخرج أحدكم من صلاته ليس له إلا عشرها)، وأين ذهبت الأعشار الباقية؟! فقد ضيعها في السهو واللهو والتفكير والبيع والشراء والسوق إلى آخره، وإذا بالشيطان يختلس منه الصلاة شيئاً فشيئاً إلى أن يضيع على الإنسان صلاته، فيخرج أحدكم من صلاته ليس له منها إلا عشرها، إلا تسعها، إلا ثمنها، إلا سبعها، إلا ثلثها، إلا خمسها، إلا ربعها، إلا نصفها، والغالب من الناس يخرج وليس له إلا نصفها، والقلة من الناس من يخرجون ولهم صلاة كاملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث الذي في سنن أبي داود بدأ من العشر ووصل إلى النصف ولم يزد على ذلك، وكأن ذلك هو الأغلب من أحوال الناس، فلذلك ينبغي على المسلم أن يحسن صلاته قدر المستطاع، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها، بالإضافة إلى أنه يكثر من النوافل؛ لكي يجبر النقص الحاصل في الفرائض فإن ذلك ينفعه يوم القيامة.
قال:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}[الروم:٣١] يعني: استقيموا في صلاتكم، وصلوا لله عز وجل صلاة تكونون فيها خاشعين لله سبحانه، مستحضرين فيها قلوبكم وعقولكم وبصائركم.