للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (فإنكم وما تعبدون إلا من هو صال الجحيم)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الصافات: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ * وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ * وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٦١ - ١٧٣].

في هذه الآيات من آخر سورة الصافات يخبر الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء الذين يعبدون غير الله سبحانه، ويضلون الخلق ويدعونهم إلى عبادة غيره سبحانه، أنهم لا يقدرون أن يضلوا أحداً إذا أراد الله عز وجل له الهداية، والأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، فهو القادر على كل شيء، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي من يشاء، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلاً، فبيده كل شيء سبحانه، والمؤمنون مأمورون بأن يؤمنوا بقضاء الله سبحانه وقدره، فقد عجز الخلق أن يتفكروا فيه، والله سبحانه لم يأمرهم أن يتفكروا فيما وراءه، ولكن أمرهم أن يؤمنوا به، وقضاء الله مبني على علم الله وعلى حكمته وقدرته، فلا شيء يجري في الكون إلا بعلمه وحكمته وقدرته سبحانه وتعالى، فما شاء كان، ولابد أن يوجد هذا الذي شاءه الله سبحانه، وما لم يشأ مستحيل أن يوجد هذا الذي لم يشأه الله سبحانه، فخلق العباد فريقاً للجنة وفريقاً للسعير، ولم يخبر العباد من هؤلاء الذين هم في الجنة ومن هؤلاء الذين هم في النار، ولكن أمرهم أن يؤمنوا بقضاء الله وقدره، فهذا أحد أصول الإيمان أن تؤمن بالقضاء والقدر.

وظهرت الفرق بين الناس، فهذه فرقة تزعم أن الله عز وجل خلق العباد وهو الذي يلزمهم ويجبرهم على ما يفعلون، فيعترضون على الله سبحانه إذا كان هو الذي خلقهم فلماذا يحاسبهم؟ وفريق آخر يقولون: الله سبحانه لم يقدر شيئاً، بل العباد يفعلون أفعالهم، ويختارون ما يشاءون، ثم الله يحاسبهم بعد ذلك، وهذه الفرقة تسمى الجبرية، أي: أن الله أجبرهم على ذلك، وكلا الفريقين في ضلال مبين، ولكن أهل السنة والجماعة يقولون: القدر سر من أسرار الله سبحانه وتعالى، كما أن الغيب كله من أسرار الله سبحانه لم يطلعنا على شيء، فنحن نقول: آمنا بالله سبحانه ولم نر الله سبحانه، وآمنا بالجنة والنار ولم نر الجنة ولا النار، وآمنا بملائكة الله سبحانه ولم نر الملائكة، قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:٣]، كذلك القضاء والقدر من غيب الله سبحانه ومن سره أمرنا أن نؤمن به، ونؤمن أن كل شيء بيد الله سبحانه، وأن الله إذا شاء شيئاً لابد أن يكون، وإذا لم يشأ فمستحيل أن يكون هذا الشيء الذي لم يشأه سبحانه وتعالى.

والله خلق عباده فمنهم كافر ومنهم مؤمن، فهو يحاسب عباده على أعمالهم، وهو الذي خلق العباد وما يفعلون، والعبد يكتسب فعله الذي يفعله، فهو مختار مريد، والعبد يختار ما يريده والله من وراء ذلك محيط، له قضاؤه وقدره سبحانه وتعالى، فالله قدر الأقدار، وعلم كل شيء، وجعل فريقاً في الجنة، وفريقاً في النار، وجعل للعبد اختياراً يختار به الشيء، فهو يستشعر حين يعصي أنه مريد لذلك، وأنه يفعل ذلك برغبته، وأنه يعصيه، إذاً: لا يحتج أحد على الله عز وجل بالقضاء والقدر، ولا يقول: يا ربي أنت خلقتني للنار، وما أدراه أنه خلقه للنار؟ أو يقول: يا ربي أنت قدرت المعصية، وهو يستشعر أنه يفعل المعصية ويستشعر أنه مريد ومختار وراغب في هذا الذي يفعله! فالله يحاسبه على هذا الذي هو فيه.

إذاً: نؤمن أن الله قدر كل شيء، وعلم كل شيء سبحانه وتعالى، وشاء سبحانه وتعالى ما كان موجوداً في خلقه.

قال سبحانه: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:١٦١] يقول للكفرة المشركين أنتم أيها الكفار وما تعبدونه من دون الله.

قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:١٦٢] لستم مظلين أحداً من خلق الله.

قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:١٦٣] إلا من قدر الله عز وجل له ذلك.

فالله يثبت في هذه الآية كما أثبت في آيات أخرى كثيرة أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء سبحانه وتعالى، ولا يقدر إنسان غاوٍ أن يغوي أحداً أو يضله أو يخرجه عن طريق الله، إلا والله قد شاء ذلك، وأراده وقدره سبحانه وتعالى.

قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ)) إلا من خلقه الله سبحانه وتعالى، وعلم أن هذا من أهل الجحيم ومن أهل النار.

ذكروا أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ذكر عنده أقوام القدر، وأنكروا أن هناك قضاء وقدراً، وقالوا: أفعال العباد خلقها العباد، وبعد ذلك ربنا يحاسبنا على هذه الأفعال، وكأنهم ينكرون أن الله يعلم الأفعال قبل حدوثها، وينكرون أن الله يقدر هذه الأشياء، فقال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، فالله سبحانه وتعالى قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:٢] فالله خلق العباد، وأراد الله أن يوجد في هذا الكون الخير والشر، وأن يكون هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فخلق الجنة وخلق لها أهلاً لحكمة منه سبحانه، وخلق النار وخلق لها أهلاً لحكمة منه سبحانه وتعالى، وخلق إبليس ليضل به من يشاء من خلقه سبحانه.

ولذلك يقول عمر بن عبد العزيز يرد على المكذبين بالقدر: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس، والمكذبون بالقدر يقولون: إن الله لا يريد المعصية وكأنهم يقرون أنه غُلِبَ في ذلك، وحاشا له سبحانه وتعالى، فإنه لا يكون في كونه إلا ما يريده سبحانه، فله الإرادة الكونية القدرية وله الإرادة الشرعية.

<<  <  ج:
ص:  >  >>