تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:٤٤ - ٤٦].
أخبرنا الله تعالى في هذه الآيات وما قبلها عن بديع صنعته في خلقه سبحانه وتعالى، وعن قدرته العظيمة، وأنه يسبح له من في السموات والأرض، والطير كذلك تسبح ربها صافات، فكل قد علمه الله عز وجل صلاته وتسبيحه.
فالله عليم يعلم كل شيء، والله خالق كل شيء، والله سبحانه وتعالى أعلم بمن خلق، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤]، فخلق كل شيء وجعل له ما يفهم به ويخاطب به، والله يفهم جميع لغات هذه الأشياء من إنسان وحيوان وبهائم وحشرات وطيور وجماد ونبات، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤]، والله سبحانه وتعالى عليم بما يفعلون، وعلمه محيط بكل شيء، ولا يحيط الخلق بشيء من علمه، فالله أحاط بكل شيء علماً، فانظر إلى الإنسان كيف أحاط الله به علماً، يكتب ما يعمل هذا الإنسان منذ خلق، ويؤمر الملك أن يكتب أجل هذا الإنسان وعمله، وشقي أو سعيد، فكم سيبقى هذا الإنسان في بطن أمه؟! ومتى سينزل من بطن أمه؟! وهل سيموت فيها أم يخرج منها حياً؟! فيأمر الله عز وجل الملك أن يكتب جميع ما يكون عليه، فيؤمر بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد.
فنزل إلى هذه الدنيا وقد علم الله عز وجل قبل خلقه كيف سيكون هذا الإنسان فيها، هل يعيش أم يموت، وهل يموت صغيراً أم شاباً أم كهلاً أم شيخاً، وما الذي سيتعلمه، وما الذي سيعمله، وما الذي سينويه، وهل سيكون على الإسلام أم على غيره، فعلم الله كل شيء، والإنسان قد يبتلى ويصاب بأشياء من مصائب الدنيا، يصاب بأشياء تسعده وأشياء تشقيه، والله قد علم ذلك كله، فهذا في الفرد الواحد، ويعلم فوق ذلك بكثير، فيعلم نفس الإنسان حين يخرج ونفسه حين يدخل، ومتى يكون آخر نفس لهذا الإنسان، فهؤلاء الناس جميعهم الله يعلم من كل واحد منهم هذا الشيء، يعلم من يموت ومن يعيش، ويعلم في النبات {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٥٩]، فهذا شيء عظيم جداً جداً، فعندما تنظر في علم الله سبحانه في ورقة من ورق الشجر فهو يعلم متى ستنبت هذه الورقة، ومتى تكتمل، ومتى تسقط على الأرض، وكذلك الحبة الصغيرة يعلم الله متى تنمو، ومتى تكون في الشجرة، ومتى تكون ثمرة، ومتى تجف، ومتى تسقط في الأرض، ومتى تبتلعها، ومتى تنمو من جديد، وهذا شيء عظيم جداً من علم الله سبحانه، فيتحير الذي ينظر ويفكر في هذا، فعلم الخالق سبحانه وتعالى علم محيط بكل شيء.
والإنسان لا يحيط بشيء من علم الله، والإنسان هنا جنس فيشمل كل الناس، فلو اجتمعوا فلا يحيطون بشيء من علم الله عز وجل، والذي ينظر في علم الإنسان يريد أنه كلما ازداد علماً تخصص في شيء، وإذا ازداد علماً بعد ذلك قلّ الشيء الذي يتخصص فيه، فانظر للإنسان الذي يتعلم وهو صغير فعندما يكبر ويذهب إلى الكلية يتعلم الطب، فيدرس جميع الفروع دراسة ليست تفصيلية، وإنما يدرسها دراسة عامة، فإذا ترقى بعد ذلك تخصص في فرع واحد فقط، فإذا ترقى بعد ذلك تخصص في شيء من هذا الفرع، وتجد إنساناً أصبح طبيباً ممارساً أو أصبح أخصائياً لجزء من جسم الإنسان، ويقوم بتحضير الدكتوراة في جزء منها في شيء معين فيه، وبعد ذلك يتخصص في مرض معين من الأمراض يكون له باع في هذا الشيء، فعلم الإنسان كلما ازداد تخصص وضاق، وبقية الأشياء ليس لديه فيها خبرة، فتذهب لطبيب مشهور جداً في نقطة معينة في هذا الشيء يعرفه، فعندما تسأله عن منطقة بعيدة منها يقول لك: اذهب إلى أخصائي فيها، فهذا الإنسان علمه لا يحيط بشيء واحد من كل جهاته، والله عز وجل أحاط بكل شيء علماً، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:٢٥٥]، فهو العليم سبحانه وتعالى الخبير، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:٤١].
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:٤٢] جميع ما في السموات وما في الأرض ملك لله تعالى، فهو المالك الحقيقي، فيملك كل شيء، ويحكم على كل شيء، ثم المصير إليه سبحانه وتعالى، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:٤٢] أي: المرجع والمآب.
ثم يعجبنا من قدرته العظيمة كيف يكون السحاب كما ذكرنا في الحديث السابق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:٤٣] (يُزْجِي): يسوق ويدفع برفق، ثم يؤلف بين هذه السحاب، ثم يركمها بعضها فوق بعض حتى تصير جبلاً عالياً بمقدار (١٥) كيلو متراً أو (٢٠) كيلو متراً بعضها فوق بعض.
قوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي: فترى قطرات المطر تنزل من خلاله، فلو شاء لسكبه دفعة واحدة، وتخيل لو انسكب هذا السحاب دفعة واحدة، كيف سيصنع بمن ينزل فوقه؟ فهذا يكون شيئاً عظيماً ومهولاً، ولكن الله بفضله ورحمته سبحانه ينظم كونه.
قوله: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) وهذا مثل هيئة الجبل الموجود على الأرض.
(فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) أي: قطع الثلج.
ومن رحمة رب العالمين أنه لا يجعل السحابة تسقط قطعة ثلج واحدة؛ لأنها ستنزل على الناس وتكسر كل ما تنزل عليه، لكن الله بفضله ورحمته ينزل البرد قطعاً صغيرة من الثلج، ولو شاء الله عز وجل لجعله مهلكاً لخلقه، ولكنه رحيم بنا سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) يصيب بهذا المطر والبرد من يشاء، فرحمة الله مقسومة، فيقسم الأرزاق لعباده، فيكون في هذا المكان مطر كثير، وفي هذا المكان مطر غزير، وفي هذا المكان مطر يسير، بحسب ما يقدره رب العالمين سبحانه من أرزاق للعباد، ويكون في مكان ما مهلكاً، وفي مكان آخر منبتاً، والله يفعل ما يشاء.
قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) أي: ضوء البرق الذي يخرج من خلال هذه السحاب ومن خلال هذا الرعد، وفي البرق شحنات كهربائية تكون بداخل هذه السحاب، فيكاد سنا وضوء هذا البرق يذهب بأبصار من ينظر إليه.