للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[هداية النبي صلى الله عليه وسلم إلى صراط الله المستقيم]

قال الله: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) هنا يؤكد فيقول: (إنك) يقيناً (لتهدي) واللام للتأكيد، والفعل المضارع مسبوق باللام المؤكدة، أي: أنت تهدي فلا يزال على ذلك حتى يتوفاه الله عز وجل.

قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) فهو يهديهم، وفي آية أخرى قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦] ففي آية (إنك لتهدي)، وفي أخرى: (إنك لا تهدي)، ولا تناقض بينهما، فهو هادٍ يدل ويرشد صلوات الله وسلامه عليه، أرشدهم وبين لهم ودلهم، تقول للإنسان: إذا أردت أن تصل إلى المكان الفلاني فاذهب من هنا، فأنت قد أرشدته ودللته، فإن هو مشى في طريق آخر فهذا أمره هو، فقول الله: (إنك لتهدي) أي: إنك لتدعو، وترشد وتبين وتدل إلى صراط الله سبحانه وتعالى.

وقوله: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي: لا تحول من أحببت، فهو يملك أن يريهم صلى الله عليه وسلم طريق الحق، أما أن يحول القلوب فلا يملك ذلك؛ ولذلك كانوا يتعنتون معه صلوات الله وسلامه عليه، ويذهب أحدهم ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:٩٠ - ٩٣] يقولون: ولابد أن تأتينا بخطاب من السماء يثبت أنك رسول، ولو فعلت ذلك لن نتبعك! هذا القلب المتحجر ماذا سيعمل فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟! فهؤلاء الكفار يقول له ربه سبحانه عنهم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:٥٦]، وهذه الآية نزلت في أبي طالب عم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم هذا الرجل، فقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم، ورد له النبي صلى الله عليه وسلم الجميل بأن أخذ علي بن أبي طالب فرباه بعد أن صار عمه كبيراً.

وأبو طالب دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ودافع عن الإسلام، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يدافع عنه، وما تجرأ الكفار أن يتعرضوا للنبي صلى الله عليه وسلم في حياة أبي طالب.

وفي آخر حياته يأتيه الكفار لعنة الله عليهم وفيهم أبو جهل، وأبو جهل كان يخاف أن يسلم أبو طالب ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به، ويشكو أبو جهل لـ أبي طالب من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول، ويطلب من أبي طالب أن يحول النبي صلى الله عليه وسلم عما هو فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يقضي الله أمره)، فالأمر ليس أنكم تعطونني الدنيا وأترك هذا الدين، الأمر أن أبلغ رسالة الله، فعند وفاة أبي طالب أتى النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال: والله يا ابن أخي، لوددت أني أقر عينك بها) يعني: أنا أحب أن أقول هذه الكلمة لأجل أن تفرح، وكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً عظيماً على ذلك، فإذا بالله ينزل عليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦] فالهدى ليس بيدك أنت.

إذاً: الهدى الذي في هذه الآية هو بمعنى الدلالة، فأنت تدل، وترشد، وتدعو، وتبين، وهذه وظيفته صلى الله عليه وسلم {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:٥٤]، والله هو الذي يهدي من الكفر إلى الإيمان، ويقلب القلوب ويصرفها؛ ولذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يكثر أن يدعو: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أكثر ما تقول ذلك! فقال: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، فالله يقلب القلوب إن شاء بالإيمان فجعلهم مؤمنين، وإن شاء بغير ذلك فجعلهم كما ما يشاء سبحانه وتعالى.

قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) و (صراط) في جميع القرآن تقرأ بالصاد، وتقرأ بالسين، وتقرأ بالصاد المشم صوت الزاي، فقراءة قنبل عن ابن كثير، وقراءة رويس عن يعقوب: (إنك لتهدي إلى سراط) بالسين، وقراءة باقي القراء غير خلف عن حمزة: (وإنك لتهدي إلى صراط) بالصاد، ويقرؤها خلف عن حمزة بالصاد المشمة صوت الزاي: (زراط مستقيم)، هذه ثلاث قراءات في هذه الكلمة، والصراط بمعنى: الطريق، والطريق المقصود منه الطريق الأعظم شرعة الله، وطريق الشريعة دين الله سبحانه، فالمعنى: وإنك لتهدي إلى هذا الدين العظيم المستقيم الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج، وهو دين رب العالمين، وشريعة الله سبحانه، ومنهج الله الذي جعله لخلقه سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>