للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عباد الرحمن يتواضعون لغيرهم]

ومن صفات عباد الرحمن: أنهم: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:٦٣]، والمشي هنا متضمن لمعنى المعيشة، أي: أن هؤلاء يعيشون فوق الأرض في سلام وتؤده وطمأنينة، فسيرهم في تواضع لله سبحانه وتعالى وتواضع للخلق، فقوله: {يَمْشُونَ} [الفرقان:٦٣]، عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم على الأرض، كما يتضمن انتقالهم من مكان إلى مكان، فإنهم حين ينتقلون ينتقلون وفيهم هذا الخلق العظيم.

قوله: (هوناً)، الهون: مصدر من هان، تقول: هان الشيء يهون، فيمشي هيناً، والمعنى: هانت عليه نفسه؛ لأنه عبد لله سبحانه وتعالى، وما دام عبداً فعلى أي شيء يستكبر فوق الأرض؟! بل حياته في سكينة ووقار، فعباد الرحمن يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد، وتؤدة، وطمأنينة، وحسن سمتٍ، قدوتهم في ذلك النبي صلوات الله وسلامه عليه.

وليس المعنى: أن المشي يكون بتمهل، إذ صفة المشي ليست داخلة في هذا الشيء، وقد تكون داخلة فيه ولكن ليست الأصل؛ لأن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف ذلك، فقد ثبت عنه أنه كان يمشي في قوة صلوات الله وسلامه عليه، وكان يمشي كأنما يتقلع، يعني: يرفع رجله ويضعها في قوة صلى الله عليه وسلم، وكان يسرع في المشي عليه الصلاة والسلام خلقة لا تكلفاً، أي: لم يكن يتكلف الإسراع من أجل أن يتعب من حوله ولكن خلقة.

يقولون: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زال زال تقلعاً ويخطو تكفؤاً، والتكفؤ: هو الإسراع، وكأنه يندفع إلى الأمام صلوات الله وسلامه عليه، قال: ويمشي هوناً، أي: ليس في مشيته صفة الكبر، أو التعاظم على الخلق، ولكن يمشي في تؤدة صلوات الله وسلامه عليه، فالتؤدة والطمأنينة لا تنافي الإسراع في المشي، ثم قال: ذريع المشية: أي أن خطوته صلى الله عليه وسلم واسعة، فهو لا يمشي مشية الشيخ الكبير الضعيف، ولكن مشيته مشية القوي صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: كأنما ينحط من صبب، أي: أن مشية النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض، كمشية النازل من فوق جبل، أو من مكان عالٍ.

وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان يسرع في المشي جبلاً لا تكلفاً أيضاً.

وهناك فرق بين إنسان طريقته في المشي الإسراع حين يقضي حوائجه، وبين إنسان يتكلف ذلك، إذ الناظر إلى من يتكلف الإسراع يراه كأنه يجري جرياً، والجري يدل على أنه تكلف لا خلقة، وقد كانت هيئة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي هيئة فيها سكون وطمأنينة مع إسراع في قضاء حوائجه صلوات الله وسلامه عليه.

قال العلماء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:٦٣]: إنما يمشي هوناً العالم بالله سبحانه، الخائف منه سبحانه، العارف بأحكامه، يخشى عذابه وعقوبته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>