[تفسير قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة (يس): {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ * فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس:٦٩ - ٧٦].
في هذه الآيات -من آخر هذه السورة الكريمة سورة (يس) - يخبر الله سبحانه وتعالى عن نبيه صلوات الله وسلامه عليه أنه سبحانه ما علمه الشعر، وما من شيء تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم إلا وربه الذي يعلمه إياه سبحانه.
فعلمه من الغيب ما شاء سبحانه وتعالى، وأخفى عنه من الغيوب ما شاء، أنزل عليه الكتاب وحفظ هذا الكتاب، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يتعجل في حفظ كتاب الله سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:١٦ - ١٩].
فنهاه عن التعجل، وكان يحاول أنه أول ما ينزل عليه جبريل بالقرآن أن يقرأ مع جبريل، فعلمه الله أن من أدب التعلم أن تستمع، فإذا استمعت ووعيت ذلك حفظناك وبينا لك معانيه.
قال له سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة:١٦ - ١٧] لك في صدرك {وَقُرْآنَهُ} [القيامة:١٧] وقراءته لك، فتقرأ هذا القرآن بعدما يقرأ جبريل وليس مع قراءة جبريل: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:١٧ - ١٨]، تتبع جبريل وهو يقرأ، وتعلم منه ذلك وأنت تنصت له وتستمع لما يقرؤه عليك، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:١٨ - ١٩] نبينه لك بعد ذلك، الله هو الذي يحفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تتعب سنحفظك وسنعلمك.
فما من شيء تعلمه إلا من فضله سبحانه، ومنعه عن أشياء لا يتعلمها صلى الله عليه وسلم، ومنها: الكتابة والقراءة، ولكن (يقرأ) بمعنى يحفظ، أما الكتابة فلم يكن يكتب، وهذه للنبي صلى الله عليه وسلم معجزة، أنه نبي أمي صلوات الله وسلامه عليه، هكذا وصفه ربه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلَ} [الأعراف:١٥٧].
فهو أمي صلوات الله وسلامه عليه، أي: لا يقرأ ولا يكتب، ولكن الله يحفظه ويعلمه ما يشاء، فصفة الأمية في النبي صلى الله عليه وسلم تعتبر من معجزاته، من أنه تعلم هذا العلم كله وهو لا يقرأ ولا يكتب صلوات الله وسلامه عليه.
فهنا ربنا تبارك وتعالى يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩] الشعر من علوم البشر يتعلمه الناس ويجيدونه فيتكلمون به، ويكون للبعض من الناس مدحة أنه يفهم الشعر ويجيده ويتكلم به، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له ذلك؛ لأنه لو كان يقول الشعر كما يقول الناس لصدق عليه قول المشركين حيث قالوا: هذا شاعر، وبدأ يلفق أشياء من الشعر ويغير أوزانها ويقول: هذا قرآن فلم يكن يقول الشعر صلوات الله وسلامه عليه، بل لعله إذا تكلم بأبيات من الشعر لا يهمه أن تأتي موزونة أو غير موزونة صلوات الله وسلامه عليه.
فربنا يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩] ليس النبي صلى الله عليه وسلم بمكانة من يتعلم الشعر، وقد ينبغي لغيره أن يتعلمه، فيتعلم العلماء من الشعر ويدرسونه ويقولونه ويتكلمون به، أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو ممنوع من ذلك، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩].
وكان هذا آية من آياته صلى الله عليه وسلم، فعندما يأتي الكفار الذين يجيدون الشعر ويكلمون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول لبعضهم: أنت الذي تقول كذا؟ فيقول البيت من الشعر ولا يحسنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيقوم الرجل يسمع إليه يقول: صدق الله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس:٦٩].
فغيره صلى الله عليه وسلم يقوله ويجيده، أما هو فلا يقوله، وإن قال فيأتي بشيء من المصادفة، وانظر مثلاً في قول طرفة بن العبد قاله النبي: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك من لم تزود بالأخبار بيت مكسور، لكن انظر إلى صاحب البيت كيف قاله! ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ما اهتم أن يأتي به موزوناً.
وكذلك لما قيل في رجل: إنه من أشعر الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الذي يقول: ألم ترياني كلما جئت طارقاً وجدت بها وإن لم تطيب طيباً لكن الشاعر ما قاله هكذا، وإنما قال: ألم ترياني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب كذلك رجل آخر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يمنحه ويعطيه مالاً، وجاء مع مجموعة من المؤلفة قلوبهم، منهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فـ الأقرع لما وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه هو وفرسه كالذي أعطاه لرجل آخر قال له: أتعطيني أنا والفرس مقدار الذي أعطيته لفلان؟! فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع الرجل يقول ذلك، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مقاله ناداه وقال: أنت الذي تقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ انعكس البيت وانقلب سجعه الذي فيه، فالرجل تعجب من النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلاً لم يتعلم الشعر صلوات الله وسلامه عليه، ولا ينبغي له.
والنبي صلى الله عليه وسلم مكث أربعين سنة قبل الرسالة في مكة وما تعلم، قال: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩] أي: غير ممكن، مع أن أعمامه وأجداده وأخواله يقولون الشعر وهو يسمع منهم ويشكرهم على ما يقولون كما قال العباس في النبي صلوات الله وسلامه عليه فشكره النبي صلى الله عليه وسلم.
أما هو صلى الله عليه وسلم فلا يقول الشعر، ولا ينبغي له، يعني: هو ممنوع من أن يتعلمه صلوات الله وسلامه عليه، لا من قومه ولا بوحي من الله تبارك وتعالى.
جاء أن أبا بكر رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنما قال الشاعر: هريرة ودع إن تجهزت غازياً كفى الشيب والإسلام بالمرء ناهياً فلما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد أن يقوله، فما ينبغي له أن يتكلم بالشعر، سمع أبو بكر وعمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول ذلك، فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم: نشهد أنك رسول الله.
يقول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩] أي: ليس له أن يتكلم بالشعر، فإذا جاء في كلامه شيء من الشعر فمن قبيل المصادفة أن يأتي ذلك، أما أنه يجيد قصيدة أو أبياتاً من الشعر وتكون موزونة كما قالها صاحبها فهذا نادر أن يقوله صلى الله عليه وسلم.
وإن كان بسليقته كرجل عربي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع الشعر فكان يقول لـ كعب بن زهير هيه: هات من أبياتك، فيقول له بيتاً وبيتاً وبيتاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقول من العرب، ولكن هو لا يتكلم بالشعر صلوات الله وسلامه عليه.
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ} [يس:٦٩] هذا القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ} [يس:٦٩] كتاب فيه التذكرة، وفيه ذكر للعرب وشرف لهم بأن ينزل هذا القرآن على نبيهم صلى الله عليه وسلم، {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:٦٩] مفصح عما تحتاجون إليه من أحكام لدينكم ودنياكم وأخراكم.
وكما ذكرنا أن هذه آية من آياته عليه الصلاة والسلام، أما غيره فلا، لو أن أحداً قال: أنا لا أجيد الشعر، فهذه ليست مدحة له، فالإنسان يمدح بكثرة العلوم، ومن ضمن العلوم الشعر أن يتعلمه ويجيده ويقوله، وهو هبة من الله عز وجل يعطي من يشاء ما يشاء سبحانه.
ولكن أغلب الشعراء كما قال الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:٢٢٥ - ٢٢٧] فهؤلاء هم الشعراء الممدوحون.
ولذلك جاء عن الخليفة المأمون أنه قال لـ أبي علي المنقري: بلغني أنك أمي، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! أما اللحن فربما س