[تفسير قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعد بالله)]
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:٣٦ - ٣٨].
في هذه الآيات يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى العباد عن كيفية مدافعة الشيطان وطرد وسوستة عن أنفسهم بعد أن ذكر كيف ندفع بالتي هي أحسن السيئة، في قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤]، فأخبر أنك تدفع الإنسان العدو بالحسنى؛ لعل الله عز وجل يؤلف قلبه، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا بحسن خلقه وبما علمه من ربه سبحانه تبارك وتعالى أن ندفع كيد الإنسان بالتي هي أحسن، قال الله عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:٩٦]، وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤] فيتعامل المؤمن مع غيره بالرفق قدر المستطاع، ولعله يؤجر على الرفق الأجر العظيم من الله سبحانه تبارك وتعالى، وليس المعنى أن الإنسان يذل نفسه أو يتنازل عن حقه إذا كان مظلوماً ولا يقدر أن يأخذ حقه، ولكن المعنى: أن الإنسان يحسن إلى من أساء إليه، فإذا أساء إليك إنسان في وقت وقدرت أن تنتصف منه وأن تنتصر عليه فلك خياران: إما أن تفعل وتنتصر ولا شيء عليك، وليس عليك من سبيل في ذلك، وإما أن تعفو وتصفح مع قدرتك عليه، فهذا أعظم لك في الأجر عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
فإذا انتصرت فإن الله يقول: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:٤١]، فإذا ظلمت فانتصرت من الذي ظلمك فلا سبيل عليك ولا حرج ولا إثم، ولكن إذا عفوت فالعفو أعظم في الأجر عند الله سبحانه تبارك وتعالى قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:١٨٦]، وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:٤٣].
إذاً: معاملتك للإنسان الذي هو خصم لك إن لم يكن في حد من حدود الله عز وجل لك أن تعفو ولك أن تنتصر فإذا كان في حد من الحدود فليس لك أن تعفو عن حد من حدود الله سبحانه تبارك وتعالى، وعليك أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، ولا تسكت على منكر, ولا تسكت على باطل.
وإذا كان الشيطان ينزغ ويوسوس للإنسان، فقد علمنا الله عز وجل أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال هنا سبحانه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:٣٦] وقال: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:٢٠٠]، ومعنى قولنا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي: ألجأ وألوذ وأستغيث وأستعصم بالله سبحانه من كيد الشيطان.
ومن أعظم الأشياء التي تؤلف بين قلوب المؤمنين أن تسلم على صاحبك، فإذا كان بينك وبين إنسان شيء ومررت عليه فالق عليه السلام، فهذا خير عظيم وتؤجر عليه، فإذا قلت له: السلام عليك فتؤجر عشر حسنات، وإذا قلت: السلام عليك ورحمة الله، فتؤجر عشرين حسنة، وإذا قلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فتؤجر ثلاثين حسنة.
وكذلك التسليم مع المصافحة تؤجر عليه هذا الأجر وأيضاً تتساقط الذنوب من بين أيديكما فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة من حديث البراء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان، يعني: يأخذ أحدهما بيد صاحبه، قال: فلا يتفرقان إلا وقد غفر الله لهما، أو قال: فتتساقط الذنوب من بين أيديهما).
فإذا سلمت على صاحبك ومددت يدك إليه مسلماً مصافحاً محباً له، فقد بدأت بالحسنى، فتكون النتيجة كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذنوب تتساقط من بين أيديكما.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينك) فالسلام يجلب المودة والمحبة بين المسلمين، والتسليم يرفع الشحناء والعداوة والبغضاء التي في القلوب، والإنسان الذي يمر على الآخر ولا يسلم عليه قد يُحدث في نفسه شيئاً فيعامله بالمثل.
فالتسليم يرفع عن قلب الإنسان ما فيه من شحناء وغضب وبغض وكراهية كما قال النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
فإذاً: من ضمن الدفع بالتي هي أحسن أن تسلم على أخيك.
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بإفشاء السلام، وأخبرنا بأن من علامات الساعة أن الإنسان يدخل المسجد ولا يصلي فيه، ولا يسلم إلا على من يعرف، فمن علامات الساعة أن الإنسان يدخل المسجد يتحدث، كما تجد الكثير من الناس اليوم يدخلون المسجد يسألون بعض الأسئلة ثم يخرجون ولا يصلون.
أو يدخلون الجنازة إلى المسجد ويخرجون ينتظرون إلى أن ينتهي الناس من الصلاة عليها ويمشون مع الجنازة إرضاء لأهلها، ولا يرضون ربهم سبحانه تبارك وتعالى في ذلك.
فمن علامات الساعة: أن يمر الرجل بالمسجد ولا يصلي فيه، ومن علاماتها: ألا يسلم إلا على من يعرف، ومن لا يعرفه لا يسلم عليه، فيجلس المسلمون متنافرين، ولا يعرف أحد أخاه، وقد خلق الله عز وجل العباد وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا فيما بينهم، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:١٣].
والغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن من مقومات وجود المحبة بين قلوب المؤمنين: الصفح والعفو وإفشاء السلام بينهم.
قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [فصلت:٣٦]، النزع: أدنى الحركة، فنزغ بمعنى: تحرك حركة بسيطة جداً، فيكون معنى الآية: إما يستفزنك من الشيطان شيء ولو كان شيئاً بسيطاً جداً من وسوسة الشيطان، ليصدك بها عن أن تعفو عن صاحبك، كأن يدخل في نفسك ويقول لك: ولماذا تعفو عنه؟ وهل أنت ضعيف؟ فاذهب واضربه وافعل فيه كذا وكد له، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأتى سبحانه هنا بهذين الاسمين السميع والعليم، أي: أنه يسمع ما تقول، ويعلم ما تخفيه في قلبك من ناحية أخيك، ويعلم ما ألقاه الشيطان من وسوسة في قلبك حتى تنتقم ممن أساء إليك، وتبتعد عن مقام العفو عنهم.
قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [فصلت:٣٦]، أي: أدنى وسوسة من الشيطان فأعرض عنه، والجأ إلى من خلقك وهو الله سبحانه، وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:٣٦] أي: السميع الذي يسمع كل شيء، والعليم الذي يعلم كل شيء من أقوال وأفعال ونوايا.