[تفسير قوله تعالى: (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون)]
قال الله سبحانه: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:٤٤].
وكأنه هنا يذكر الكفار بقدرة الله سبحانه على تبديل الأحوال، من حال إلى حال آخر، وهم يرون تنازع الفرس والروم على الأرض، وهما أكبر بلدين موجودين وأكبر إمبراطوريتين.
قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:٢ - ٤].
والله عز وجل يأتي بجنود من مكان فيغلبون الجنود الذين في المكان الآخر، وتصبح الأرض التي في يد الأول بيد الثاني، فتقصر الأرض من جهة وتطول من جهة، أفلم يرَ الكفار مثل ذلك، بأن الله يأتي الأرض فينقصها من أطرافها؟ فقد يكون الإنسان يملك ممالك كثيرة فيأتي عليه جيش من أعدائه فيأخذ نصف ما بيده أو أكثر، فتضيع مملكته أو كثير منها، وتصير من حق الآخر.
فإذا كانت الدنيا دول تدول وتضطرب وتتغير مرة مع هؤلاء، ومرة مع هؤلاء، فمن الذي يعصمكم أنتم من الله؟ فقد تطاولتم وكنتم في النعم، أفلا تخافون أن يأخذ الله عز وجل منكم هذه النعم؟ فكأنه يذكرهم بالنظر إلى ما حولهم، من أن الأرض قد يملكها إنسان ثم فجأة يأخذها غيره، والعرب كانوا يعرفون ذلك حين يغير بعضهم على بعض، وتغير القبيلة على قبيلة ثانية وتأخذ ما بأيديهم، ثم ترجع الثانية تغير عليهم وتسترد ما أخذوه، فتكون الأموال بأيديهم ثم فجأة تصير إلى آخرين، ثم فجأة ترجع إليهم، فتكون الدنيا دولاً فلا يغتر الإنسان بالدنيا التي معه.
وهذا معنى من المعاني الواردة في الآية، فكأن معنى: {نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:٤١].
أي: بالقتل والسلب والغصب وأخذ أموال البعض وإعطائها للبعض الآخر.
فهذه آية كانوا يرونها أمامهم.
وقالوا: إن من معاني هذه الآية: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:٤٤].
إن الأرض كلها كفر، ثم ظهر الإسلام، وبدأ الإسلام غريباً، ثم زاد الإسلام وزاد جنوده، إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جاء الجهاد في سبيل الله سبحانه وانتصر المسلمون على الكفار، وفتحت الأرض أمامهم، فزادت أرض المسلمين وقلت أرض الكافرين، ثم فتح المسلمون مكة، وفتحوا ما حولها من البلدان، ودانت لهم الحجاز جميعها، ثم توجهوا إلى الشام فاتحين، ثم توجهوا إلى الجنوب وإلى الشرق وإلى الغرب، وفتح الله عز وجل من فضله ومن كرمه على المسلمين؛ فأصحاب هذا القول يرون أن الآية نزلت في مكة قبل الفتوحات.
والقرآن صالح لكل زمان ومكان، والله عز وجل يأتينا بالمعنى الذي يفهم في وقت على معنى، وهو معنى صحيح، ثم يجد الأمر، ويجد أمراً أمامه، فيقول للكفار الموجودين: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:٤٤]، فيجدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن البقاع التي في أيدي المسلمين تزيد، والتي في أيدي الكفار تقل، ولا يزال الأمر كذلك إلى أن يأتي أمر الله سبحانه، ولا يترك الله عز وجل بيت حجر ولا مدر إلا ويدخله هذا الدين العظيم، وهذا معنى من المعاني.