[نبذة من حياة أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها]
من نساء النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما: أم حبيبة كانت من المسلمات الأوائل، وزوجها كان مسلماً ثم تنصر، والله سبحانه وتعالى يَمُنّ على من يشاء بفضله ويخذل من يشاء بعدله، فمنّ عليها بالثبات على دينها، وخذل زوجها الذي هاجر معها إلى الحبشة وإذا به يجد أهل الحبشة نصارى فيتنصر مثلهم، لكنها ثبتت على الدين في دار البعد ودار الغربة.
كانت متزوجة من عبيد الله بن جحش أخو السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، السيدة زينب بنت جحش صارت أماً للمؤمنين رضي الله عنه، وأخوها مات نصرانياً كافراً في دار الحبشة دار الهجرة.
فمن سوء الخاتمة: إنسان أسلم وهاجر في سبيل الله عز وجل ثم غلبت عليه شقاوته فصار كافراً بعد ذلك؛ لذلك لا يأمن الإنسان مكر الله أبداً، وإذا أعطاك الله من فضله ومن خيره فاحرص على هذا الخير وتمسك به، تمسك إذ هداك الله سبحانه بالإسلام ولا تغتر، ولا تقول: أنا بعد عشرين سنة سأصلي، أو بعد خمسين سنة أصلي، لا تمن على الله عز وجل، فإن الله يقول: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:١٧].
المنّة لله عز وجل على خلقه، فأنت لا تدري أن الله سبحانه قد يملي لعبده ثم يختبره، فإذا به ينقلب على عقبيه، وكم من إنسان كان على خير وكان على دين، وإذا به فجأة ينقلب حاله ويترك دين الله عز وجل ويترك صلاته ويترك التزامه، وكم من إنسان كان على هدى وعلى تقوى، ثم صار منافقاً بعد ذلك، فاسقاً شريراً.
فلا تأمن مكر الله سبحانه ولا تمنّ عليه عز وجل بأنك متمسك بدينه، فالفضل بيد الله سبحانه يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء، ويخذل من يشاء.
فهذا الرجل عبيد الله بن جحش ممن خذله الله سبحانه وتعالى، ارتد في الحبشة، وصار نصرانياً وكفر، وإذا به يموت على ذلك، وصارت هي وحيدة في هذه الدار.
أين تذهب هذه المرأة الفاضلة؟ أبوها أبو سفيان زعيم قريش وزعيم الكفرة في هذا الحين، أسلم بعد ذلك رضي الله عنه، لكن حتى هذا الحين كان كافراً، هل تذهب إلى هذا الرجل أم أنها تظل في أرض الحبشة مع من هم هنالك ليس لها أحد، أو ترجع إلى المدينة؟ فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يشرفها ويكرمها ويتزوجها صلوات الله وسلامه عليه، هي في الحبشة وهو في المدينة صلوات الله وسلامه عليه، ويتولى هذا العقد الرجل المسلم الفاضل الذي هو ملك الحبشة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرسل إليه فيزوج أم حبيبة من النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ومن العجب أن ملك الحبشة ملك النصارى يسلم، وهذا الرجل المهاجر إلى أرض الحبشة يتنصر، فعندما تنظر في قضاء الله سبحانه تتعجب للأمر، ولكن لا عجب في ذلك، إنه أمر الله سبحانه، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:١٤]، علم أن هذا في قلبه الإسلام وفي قلبه الخير فهداه، فهذا النجاشي ملك الحبشة الذي كان نصرانياً إذا بالله يهديه إلى دينه سبحانه.
والعجب أن قومه كلهم لم يسلم منهم أحد، ولم يسلم أحد من أهل الحبشة، وإنما أسلم الرجل وجمع البطارقة وجلس معهم، وجاء بالمهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع منهم ما يقولون، فإذا بـ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يتلو عليه من كتاب الله سبحانه ويخبره عن أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصدق ويؤمن علانية، وقومه يعلمون أنه على الإسلام رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيأتيه من الكفرة القرشيين من يقول له: اسمع ماذا يقولون في المسيح عيسى بن مريم؟ يريدون أن يوقعوا بينه وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يجمعهم ويسمع منهم، فيقولون له: إن المسيح بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه سبحانه وتعالى.
إذاً: هو عبد مخلوق، فإذا به يقول: (ما زاد المسيح على مثل هذا بحصاة)، فأسلم وقال: لولا ما هو فيه من أمر الملك وأمر البلد لذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يغسل قدميه صلوات الله وسلامه عليه.
هذا ملك لم يغتر بملكه، ولم يفتنه أتباعه، عرف الحق فاتبع الحق فاستحق أن يأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (مات أخوكم النجاشي فقوموا فصلوا عليه، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو المسلمين ويقول: مات أخوكم النجاشي قوموا فصلوا عليه)، فيصلي عليه صلاة الجنازة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
مَنّ الله عز وجل عليه وهو ملك في قومه، وكل ملك يخاف على ضياع الملك من يده ولكن هذا لم يخف شيئاً، وقال: إن الله هو الذي ردّ عليّ ملكي، ليس لأحد فضل عليّ في ذلك.
كان ملكه قد ضاع منه يوماً من الأيام، ورده الله سبحانه وتعالى عليه، فعرف الفضل لله.
أسلم الرجل وزوج النبي صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة بنت أبي سفيان ودفع المهر من عنده، فكان أعظم مهر أمهرته امرأة، إذ دفع في السيدة أم حبيبة أربعة آلاف درهم، أي: أربعمائة دينار دفعها فيها، فكان أعلى مهر دُفع لامرأة من نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، دفعه عنه النجاشي رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم بعث بالسيدة أم حبيبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع رجل من الصحابة وهو شرحبيل بن حسنة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة معززة مكرمة قد أبدلها الله سبحانه وتعالى خيراً مما كانت فيه ومما كانت عليه، وتوفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم في سنة (٤٤) للهجرة، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم (٣٤) سنة.