[بيان ما كان عليه النبي من الحاجة والمخمصة]
قال تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ) ماذا سيحصل؟ (لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ)، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:١٤] فالله هو الذي خلق الإنسان، وهو يعرف طبيعته، وطبيعته أنه إذا أعطي وصار غنياً فإنه يطغى ويبغي على خلق الله سبحانه، لذلك كان نبينا الكريم العظيم صلوات الله وسلامه عليه يدعو ربه ويقول: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، فهذا حال النبي الذي لو طلب من ربه لجعله ملكاً من الملوك، وقد أنزل الله عز وجل عليه جبريل فقال له: (إن ربك يخيرك: إن شئت عبداً نبياً، وإن شئت ملكاً نبياً، فنظر إلى جبريل يستشيره - والمستشار مؤتمن - فأشار إليه جبريل أن تواضع، فقال: بل عبداً نبياً) فتواضع النبي صلى الله عليه وسلم فيما طلب من ربه سبحانه، ورفض الدنيا، وفضل أن يجوع يوماً ويأكل يوماً، فإذا جاع سأل ربه، وإذا شبع حمد ربه سبحانه.
وكان يخرج من بيته صلوات الله وسلامه عليه وقد استشعر الجوع الشديد، ولا شيء في بيته صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد طعام يطعمه في بيته، فكان يمر عليه اليوم واليوم واليوم ولا يوجد في بيته شيء صلوات الله وسلامه عليه، وكان يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، وقد خرج يوماً فإذا بـ أبي بكر فقال: ما أخرجك يا أبا بكر؟ قال: الجوع يا رسول الله! وجاء عمر رضي الله عنه فقال له: ما أخرجك؟ قال: أخرجني الذي أخرجكما الجوع، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر حتى وصلوا إلى بيت رجل من الأنصار، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فرح به ودعاه هو وأبا بكر وعمر، فجلسوا وآتاهم بعنقود من عناقيد حديقته فيه رطب، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وجاء لهم بماء بارد فشربوا الماء وحمدوا الله، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لتسألن عن النعيم) أي: هذا من النعيم الذي تسألون عنه، فقال عمر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي نعيم يا رسول الله؟! وإنما هما الأسودان التمر والماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة)، فهذا النبي الكريم جعله الله سبحانه يجد أحياناً ولا يجد أحياناً، ويموت النبي صلى الله عليه وسلم وقد مرت عليه شهور ولم توقد في بيته نار، ولم يطبخ في بيته شيء، ومن منا يمر عليه ستون يوماً ولم توقد النار في البيت لعمل الطعام والشراب؟!! فتُسأل عائشة: فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان - أي: السائد عندنا في المدينة - التمر والماء.
وهذا أبو هريرة يطعم الناس الخبز، فقد عمل لهم فرناً وأوقف عليه خبازاً، وأبو هريرة كان من أفقر خلق الله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه، وكان رجلاً قنوعاً، وقد تعلم القناعة من النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان أهم شيء عنده أن يطلب العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ويحفظ منه أحاديثه صلوات الله وسلامه عليه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم بأن دعا له أن يحفظ فلا ينسى، قال: (شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنني أنسى، فقال: ابسط ثوبك، فبسط ثوبه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اضمم عليك ثوبك، فضم عليه ثوبه، قال: فما نسيت بعد ذلك شيئاً حفظته)، فـ أبو هريرة استحق المكافأة مع أنه لم يكن من السابقين المهاجرين، فإسلامه كان متأخراً، فقد أسلم في عام خيبر، ومع ذلك حفظ من الأحاديث ما لم يحفظه غيره رضي الله عنه، وصار راوية الإسلام رضي الله عنه، فأحب الدين، وأحب الله، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحبه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكرمه، وجعله قريباً منه ليسمع منه أحاديثه الكثيرة التي يقولها، ودعا له أنه لا يحبه إلا مؤمن، وفعلاً ما من مؤمن يرى أبا هريرة إلا ويحب أبا هريرة رضي الله عنه، وما من مؤمن يسمع لـ أبي هريرة إلا ويحب أبا هريرة، ومن أبغض أبا هريرة فلا يستحق أن يكون مؤمناً.
فـ أبو هريرة رضوان الله تبارك وتعالى عليه كان فقيراً، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم أغناه الله عز وجل، ومع ذلك لم ينسَ الفقر، ولم ينسَ أنه كان فقيراً، وكان يقول للناس: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأكل النقي من الخبز.
فـ أبو هريرة كان يطعم الناس الخبز، ويقول لهم: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يطعم ولم يأكل من هذا صلوات الله وسلامه عليه، فعرف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به، والمؤمنون الفقراء يتأسون به، ولما فتحت عليه الدنيا صلى الله عليه وسلم ما وضعها في جيبه، ولم يدخرها، وإنما أنفق لله سبحانه، وكان يأخذ ما يقوت أهله، والباقي ينفقه على المؤمنين وعلى ضيوفه، حتى إنه قبل أن يتوفى فتح الله عز وجل عليه، فصار له نصيب من المغنم، ونصيب من الفيء، فكان له فدك وغيرها، فيقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) أي: ما تركناه فهو صدقة، فلا يورث مال النبي صلى الله عليه وسلم، فأنفق ماله كله مما فتح الله عز وجل عليه في سبيل الله، والمسلمون كذلك كان لهم من المغانم، ويموت أحدهم وله أموال، وله بيوت، ويرثه أهله، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن كذلك، فقد توفي صلى الله عليه وسلم وكل ما تركه صدقة على المسلمين، فلم يأخذ شيئاً حياً ولا ميتاً صلوات الله وسلامه عليه، ولا ترك لأهله إلا محبة المسلمين والدعاء لهم، وما جعله الله عز وجل لهم في كتابه سبحانه وتعالى.
إذاً: لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا، ولكن جعل منهم فقراء وأغنياء، فالفقير يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وليس عنده شيء صلوات الله وسلامه عليه، ومات ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود في أوساق من شعير، وإذا لم يدفع أحد الثمن فإن اليهودي سيبيع هذه الدرع ويأخذ منها ثمن الشعير، ولكن قضى عنه علي رضي الله عنه دينه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، واسترد هذه الدرع من اليهودي، فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهو على هذه الحالة، مات ودرعه مرهونة عند يهودي.
والسبب الذي جعل النبي صلوات الله وسلامه عليه يشتري من اليهودي أن اليهودي سيطلب حقه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشتر من المسلم شفقة وخوفاً أن المسلم لا يأخذ ماله، أو إذا مات النبي صلى الله عليه وسلم فإن المسلم يستحي أن يقول لأهل النبي صلى الله عليه وسلم: أين حقي؟ فسيقولون: ما ترك لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فيستحي المسلم أن يأخذ حقه، وأما اليهودي فلن يستحيي، فمات النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند اليهودي حتى فكها علي رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والغرض من هذه القصص بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يحزن المؤمن إذا وجد نفسه فقيراً، وإذا بات جائعاً، أو بات عارياً، وإن كان هذا نادراً ما يحدث، ولكن الله يفعل بعباده ما يشاء.
نسأل الله من فضله ورحمته في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.