تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده)
تأتي التذكرة من الله سبحانه وتعالى في ندائه لعباده جميعهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [لقمان:٣٣]، وهو يدعو الجميع إلى العود إلى الله سبحانه وتقواه، فيقول: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:٣٣]، والرب: هو الخالق سبحانه وتعالى، وهو الذي يفعل ما يريد، ويحكم بما يشاء سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (اتَّقُوا)، أي: اجعلوا وقاية بينكم وبين غضبه وعذابه، ومنه قول القائل: أنا أقي نفسي من حر الصيف بأن أضع شمسية على رأسي، أو أجلس في البيت، أو آتي بمكيف، وقد يقول: أقي نفسي من برد الشتاء بأن ألبس الصوف أو أعمل كذا من الوقاية، أخذاً بالأسباب لتدفع عن نفسك الضر.
والنداء هنا: اتق ربك، واتق غضبه، وخذ بالأسباب لتدفع عن نفسك عقوبة الله سبحانه، إذ إن عقوبته هي النار.
ثم أمرهم بأن يخافوا عذاب اليوم العظيم فقال تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا} [لقمان:٣٣] وقد نكر اليوم للتعظيم، أي: يوماً عظيماً، قال عنه تعالى: {يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:٧].
وشرع سبحانه يبين بعض مواقف ذلك اليوم فقال: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:٣٣]، ففي يوم القيامة يفر كل إنسان من أقرب الأقربين إليه، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٦]، فالكل يقول: نفسي نفسي، حتى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام يقولون ذلك، قال تعالى: {يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:٣٣]، وهذا معنى قوله سبحانه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:١٦٤]، أي: لن تأتي نفس آثمة محملة بالأوزار والذنوب يوم القيامة لتقول لغيرها: احمل معي قليلاً مما أحمل، ويستجاب لها، حتى الأب لا يقول ذلك لابنه، ولا الابن يقول ذلك لأبيه، على أنه في الدنيا قد يفعل الإنسان الكثير مع أبيه ومع ابنه، فالأب في الدنيا عندما يجد ابنه مريضاً يود لو يفديه بنفسه، وكذا الابن يود لو يفدي أباه بنفسه، أما يوم القيامة فتظهر الأمور على حقيقتها، فإن نار الله العظيمة المستعرة تجعل الإنسان يفر من أقرب الناس إليه.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لآل بيته ذلك فقال: (يا فاطمة بنت محمد قي نفسك النار، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً)، أي: خافي على نفسك من النار، واهربي منها فإني يوم القيامة، أقول: قد أبلغتكم، والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ وقال لكل الناس: قوا أنفسكم من النار، ثم قال سبحانه: {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:٣٣]، أي: لا الابن يحمل من أوزار الأب، ولا الأب يحمل من أوزار الابن، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان:٣٣]، أي: إن يوم القيامة وعد من الله، وهو آت لا محالة، فالله لا يخلف الله الميعاد.
ثم حذر من الاغترار بالدنيا فقال: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان:٣٣]، وفي الآية بيان أن الإنسان قد يؤمن، وقد يصدق، ولكن لا يعمل، فقد حمله الغرور على ترك العمل، فإذا رأى نفسه بصحة وعافية سوّف وأخذ يقول: ما زال أمامي عمر طويل، وقد يرى أمامه رجالاً ونساء يموتون ولا يعتبر، ظناً منه أنه سيظل مخلداً ولن يموت؛ فيقول الله عز وجل له: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان:٣٣]، قد يخدع الإنسان نفسه، أو يخدعه الشيطان، أو بالأمل المكذوب، فيرى نفسه صغيراً فيسوف التوبة ويقول: سأتوب غداً بعد أن أعمل كذا، فالله يقول له: لا تغتر؛ فإن تكليفك من ساعة بلوغك، فمذ بلغت كتبت عليك آثامك، وستظل تكتب حتى يتوفاك الله سبحانه وتعالى.
وكما ينهاك الله عن أن تغر نفسك أيضاً لا تخدع غيرك، فالأب ينبغي أن يأمر أبناءه بالمعروف، ولا يقول: الولد ما زال صغيراً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الأب فقال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فينبغي أن تأمر الابن أن يصلي لسبع سنوات، فإن السبع السنوات هي سن التمييز ويكتب له فيها الثواب، أما إذا وصل عمره العشر السنوات فمره بالصلاة، واضربه على تركها، حتى إذا بلغ كان عابداً لله سبحانه وتعالى، ذا تقوى ودين، فلم تحتج أن تأمره وأن تنهاه.
ولم يحذر الله من غرور الدنيا فحسب بل حذر أيضاً من غرور الشيطان، قال تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:٣٣]، والغرور هو الشيطان وفي هذه الآية قراءة واحدة فقط وهي: (الغرور) وهو بمعنى: الشيطان، وإن جاء في غيرها (الغُرور) بالضم، أي: المصدر الذي يغر الإنسان من خداع أو باطل، أو من زينة وزخرف، أما: (الغَرور) على وزن فَعول فإنه بمعنى: الشيطان، يعني: احذروا من الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:٦].
والإنسان عادة إذا عرف عدوه فاتخذه عدواً حذر منه، إذا مر في طريق وفي طريق آخر، وهكذا ينبغي ألا تمشي مع الشيطان، ولا تغر نفسك؛ فإن الموت آت ويوم القيامة قريب.