للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[فظاعة شهادة الزور والتحذير منها]

شهادة الزور من أعظم وأفظع المنكرات، فهو هنا لم يقل: لا يشهدون بالزور، وإنما قال: ((لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) سواء قل أو كثر، فشهود الزور بأن يحضر مجلساً فيه لغو ولعب، وإن كان لن يعمل معهم ذلك، ولكنه لا ينكر عليهم، فهذا شهد مشهداً باطلاً لا ينبغي له أن يشهده.

فالإنسان الذي يتكلم بالكذب مصاب بمصيبة، ولذلك جاء في شهادة الزور في الصحيحين من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، أو قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، يقول أبو بكرة: فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت)، يعني: كررها عدة مرات لتوعية الناس وتحذيرهم من قول الزور وشهادة الزور، وهناك فرق بين الاثنين، فقول الزور: أن يتكلم الإنسان من غير شهادة عند القاضي أو غيره ويكذب في الكلام، فهذا قول الزور وقول الكذب، أي: ينمق القول ويزخرفه على من معه فيدلس عليه ويكذب عليه.

أما شهادة الزور: فهي أن يكذب في الشهادة عند القاضي أو عند الحاكم في الدعاوى أمام الناس، فهنا حذر من الكذب في الكلام، وهذه شهادة الزور، قوله: (وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)، فما زال يكررها صلوات الله وسلامه عليه بياناً أن هذا شيء فظيع، وشيء عظيم، والله عز وجل يعاقب عليه أشد العقوبة.

فشاهد الزور واقع في أكبر الكبائر؛ لأن الإثم فيها ليس على نفسه فقط، ولكن على هذا الذي شهد عليه زوراً، فقد ضيع حقه، فبدل أن يأخذ الحق بشهادة هذا، يضيع الحق منه إلى غيره.

فلذلك الإنسان الذي يحلف كذباً ليقتطع مال المسلم، هذا حلف يميناً غموساً تدخله في النار وتغمسه فيها، وتسمى: يمين الغموس، فكيف بمن يشهد بالزور حتى يضيع حق الإنسان فيأخذه غيره؟ هذا شاهد زور، فله العقوبة الأليمة عند الله سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم هنا: (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور).

كذلك جاء في حديث آخر في أمر الإنسان الذي يتعبد ويصوم لله سبحانه، ثم مع ذلك يتكلم بالزور، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، يعني: الإنسان الذي يقول: أنا صائم سواء كان صيام تطوع أو فريضة، وحياته كلها زور وكذب وغش وأكل لأموال الناس، نقول له: صائم عن الطعام والشراب، ومفطر على أعراض الناس، ومفطر على الزور وأكل أموال الناس، فليس لله حاجة في أن تدع طعامك وشرابك.

فالإنسان المؤمن يصلي صلاة تمنعه من الفحشاء والمنكر، ويصوم صوماً يمنعه من ذلك، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:٤٥]، وكذلك الصوم، فقال هنا: (من لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).

أيضاً: جاء عن عمر رضي الله عنه، أنه أتي بشاهد زور، فأوقفه أمام الناس يوماً إلى الليل؛ وقد أوقفه أمام الناس من أجل أن يفضحه أمام الناس؛ لأنه شاهد زور، ثم قال: هذا فلان يشهد بزور، فاعرفوه، ثم حبسه عمر رضي الله تعالى عنه.

وفي رواية: أنه ضربه أحد عشر سوطاً، ثم قال: لا تأسروا الناس بشهود الزور.

يعني: لا تحبسوا الناس بسبب إنسان يشهد عليهم بالزور، واتقوا الله سبحانه وتعالى في الناس، وذلك بأن تتحروا من الشاهد الحق، فمن زكاه الناس فاقبلوه، أما شاهد لا تعرف عنه شيئاً، ويأتي يشهد بالزور وتحبس الناس من أجله، فلا تفعلوا ذلك، ثم قال: فإنا لا نقبل من الشهود إلا العدل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>