ولما بلغت هذه الخيانة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مع المؤمنين أرسل إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج وسعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنهما، وكانوا حلفاء اليهود في الجاهلية، فأرسلهما إلى اليهود لينظرا حقيقة الأمر دون أن يعلم بذلك أحد.
وهذا من ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على المؤمنين، فلو علموا أن اليهود قد غدروا بهم لأثر ذلك على قلوبهم ومعنوياتهم، لذلك قال لهذين الرجلين: انطلقا إلى بني قريظة، أرسل معهما أيضاً عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير، قال:(فإن كان ما قيل حقاً فالحنوا لي لحناً ولا تفتوا في أعضاد الناس)، أي: فإذا كانوا قد غدروا فلا تنشروا الخبر في وسط الناس، مع أن الخبر قد وصل إليهم، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لو استيقنوا الخبر لفت في أعضاءهم، وألقوا بأيديهم ويئسوا.
وقوله لهم: الحنوا لي لحناً، يعني: قولوا كلاماً آخر أفهمه أنا والناس لا يفهمون منه شيئاً.
قال:(وإذا كان الكلام كذباً فاجهروا للناس).
وفعلاً ذهب السيدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير إلى اليهود فوجدوهم على أخبث ما يكون، فقد غدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وانقلبوا وشتموهما.
ورجع سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهما، وكان سعد بن معاذ أشد المسلمين على اليهود فشتمهم وسبهم وشتموه أيضاً، فقال سعد بن عبادة: دع عنك شتمهم، فالذي بيننا وبينهم أكبر من ذلك، ثم أقبلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: عضل والقارة، وهنا فهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفهم الناس شيئاً.
وعضل والقارة قبيلتان من العرب، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد أن ابعث لنا من يعلمنا القرآن، فأرسل إليهم ستة من قراء القرآن، فلما ذهبوا إليهم غدروا بهم وخانوهم وقتلوهم، فكأنهم يذكرونهم أن اليهود قد عملوا بمثل ما عمل به عضل والقارة بالقراء، فهذا هو اللحن الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم قال:(أبشروا يا معشر المسلمين).
وقد كان الأمر كما ذكر الله سبحانه وتعالى بأنهم جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وكادوا يظنون بالله الظنونا، بل ظنوا بالله ظن السوء، بأنه لا ينصرهم وأنه تركهم.