للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:١٢ - ١٤].

لما ذكر الله سبحانه وتعالى شيئاً من قصة داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف من عليه سبحانه وأعطاه ملكاً، وسخر معه الجبال يسبحن معه والطير، أمر داود أن يشكره عليها فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣] فالذين يشكرون الله عز وجل من خلقه هم القليلون، والذين يكفرون نعم الله عز وجل كثيرون، فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣] فهذا داود ذكر الله لنا شيئاً مما جاء من قصصه عليه الصلاة والسلام، وهذا سليمان ابنه ذكر لنا ربنا كيف أنعم على هذا وذاك، إذ أنعم عليهما الابن بالعلم والفهم والملك والنبوة.

فمن نعم الله عز وجل على سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما حكاه الله بقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ:١٢] وهذا من تسخير الله عز وجل الكائنات لسليمان عليه الصلاة والسلام، فالريح سخرها له، فقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [الأنبياء:٨١] أي: سخر لسليمان الريح، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: (ولسليمان الرياح) أي: سخرنا الرياح له، وقراءة شعبة عن عاصم: (ولسليمان الريحُ) أي والريح لسليمان مسخرة، كأنها مبتدأ مؤخر؛ لأن الله سبحانه وتعالى يذكر أن هذه الرياح سخرها لسليمان، إذاً الريح لسليمان مسخرة بفضل الله وبقوته سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:١٢] فهذا تسخير عجيب، حيث إن الريح تطيع أمر سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

والريح خلق من خلق الله سبحانه وتعالى يرسلها فيجعلها نسيماً بارداً على قوم، ويجعلها حارة شديدة على قوم، ويجعلها عاصفة على قوم، ويجعلها قاصفة على قوم، فالله يصرف في كونه ما يشاء سبحانه وتعالى.

فالله سخر لسليمان الريح، وسرعتها عظيمة جداً إذ إن غدوها شهر، والغدو: هو الخروج مع أول النهار، فكأن سليمان عليه الصلاة والسلام يسخر له ربه هذه الريح فتحمله مسيرة شهر في غدوة واحدة، فهو ينتقل من مكان إلى مكان، لو أنه ركب على فرسه لسار شهراً كاملاً حتى يصل إليه، ولكن الريح تحمله بأمر الله سبحانه هو ومن يريد أن يحمله معه في مقدار الضحى من النهار، ولو أن غيرها الذي سارها لسار مسيرة شهر، والرواح: هو العود بالعشي، والريح رواحها شهر! إذاً كأنه يذهب إلى مكان ويرجع إليه في غدو ورواح يذهب ويقضي حاجة ويرجع فيما لو ركب على الفرس وجرى إلى هذا المكان ورجع منه في شهرين، فالريح تذهب وترجع به في غدو ورواح في ذلك الوقت القليل! قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:١٢] ذكر بعض أهل العلم منهم الثعالبي أن الريح إذا ذكرت في القرآن فلا تأتي إلا في الخير، والرياح لا تأتي إلا في الشر، وهذا فيه نظر؛ لأن ما من كلمة ريح جاءت إلا وفيها قراءة أخرى الرياح، فعلى هذا يكون الكلام غير مطرد إلا إن كان يقصد في اللغة، يعني: عند أهل اللغة ذلك، أما في القرآن فهو غير مطرد، فكأنه بنا على قراءة واحدة التفرقة بين الريح والرياح.

<<  <  ج:
ص:  >  >>