حكم داود سليمان في المرأة التي شهد عليها بالزنا زوراً
ويوجد قضية ثالثة من هذه القضايا ذكرها الحافظ ابن كثير نقلاً عن ابن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام في تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس: (أن امرأة حسناء كانت في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم فامتنعت، فاغتاظوا منها لأنها لم توافقهم على الزنا والعياذ بالله، فشهدوا عليها عند داود أن كلبها يزني بها، فلما شهد الأربعة وهم من كبار القوم، وظن أنهم صادقون أخذ بكلام الأربعة وأقام عليها الحد فرجمها، فماتت المرأة مظلومة، قال: ثم لما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان.
فقد كان صغيراً وقت حدوث هذه القضية، فقعد مع أطفال صغار معه، واستحضر هذه القضية وعملها لعبة يلعبها أمام داود.
فانتصب سليمان حاكماً، وتزيا أربعة منهم بزي أولئك وآخر بزي المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكنت كلبها من نفسها، فقال سليمان: فرقوا بينهم، أي: فرقوا بين الشهود الموجودين: فسألهم: ما كان لون الكلب؟ فسأل الأول: فقال: كان لونه كذا.
وسأل الثاني: ما كان لون كلبها؟ قال كذا، ثم الثالث ثم الربع، فاختلف الأربعة، فكل واحد ذكر لوناً، فتنبه داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام لذلك وأتى بالأربعة الشهود وفرق بينهم، وسألهم عن لون الكلب فكل واحد ذكر لوناً، فأمر بقتلهم جميعاً، لأنهم تسببوا في قتل المرأة.
وقد استفاد من هذه الآية بعض الحكام حكماً احتج به على الكفار، فإن الوليد هدم كنسية دمشق فكتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كنت مصيباً فقد أخطأ أبوك، وإن كان أبوك مصيباً فقد أخطأت، يعني: يريد منه أن يقع في أبيه فلو قال له: أبي كان مخطئاً سيشنع عليه، وإن قال: أنا المخطئ، سيقول له: كان أحق بالملك رجلاً آخر غيرك.
فأجابه الوليد وأرسل إليه بهذه الآية: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٨ - ٧٩]، قال: كان داود وسليمان على نبينا وعليهما الصلاة والسلام قد حكما في هذه القضية، فالله سبحانه وتعالى قال: {َكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٩]، أي: هذا حكم بحكم وبعلم، وذاك حكم بحكم وبعلم، ولكن الله عز وجل زاد الآخر فهماً على الأول فاحتج بهذه الآيات على ملك الروم.
فالنبي له أن يجتهد ولكن لا يقر على خطأ، فإذا أخطأ نزل الوحي يبين الخطأ، لكن غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليسوا كذلك، فالإنسان لا يجوز له أن يجتهد إلا وهو أهل للاجتهاد، ففي الحديث عن بريدة رضي الله عنه وهو عند أبي داود وهو صحيح قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به)، أي: أنه عرف الحق من علمه ومن اجتهاده فقضى بهذا الحق الذي عرفه، فهو في الجنة.
الثاني: قال: (ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار)، أي: هو عارف وعالم بالحق ولكنه قضى بغير الحق، فهو في النار.
الثالث: قال: (ورجل قضى للناس على جهل)، ولم يذكر أصاب أم أخطأ، فكأن الذي يقضي بجهل سواء أصاب أم أخطأ هو في النار، لأنه ليس من حقه الاجتهاد، وليس من حقه القضاء، وليس من حقه أن يفتي في الأحكام وهو لا يعرف هذه الأحكام.
والحق واحد، يعرفه الإنسان ويقضي به، فإن فعل ذلك استحق أن يكون من أهل الجنة.