[مناسبة الآيات لما قبلها]
في هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة -وبعد أن ذكر الله سبحانه من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة- أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للقوم: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل:٩١] فتناسبت هذه الآية في سياقها مع ما قبلها من الآيات.
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآية قوله تعالى: {ويَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام:٧٣]، والنفخ في الصور كائن يوم القيامة، فالله يقول: اذكروا هذا اليوم العظيم الذي يفزع فيه {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:٨٧]، وهذا تخويف من الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة، والسورة كما ذكرنا قبل ذلك سورة مكية، أي أنها نزلت في وقت كان يؤذى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤذى فيه المؤمنون، ويطردون من ديارهم، ويشردون، ويقتلون، ويعذبون، فجاء القرآن ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويخبرهم أن هؤلاء الذين يفزعونكم الآن سيفزعون يوم القيامة، ويخيفهم الله، ويعذبهم في ذلك اليوم.
والإنسان مهما كان فيه من قوة فلن يبلغ أن يضرب الأرض بقدمه فيخرقها، ولا أن يبلغ الجبال طولاً، أو يضاهيها قوة، فهي أقوى من الإنسان بكل حال، ولذا فمهما عتا فلن يكونوا أقوى من الجبال التي تصير هباء يوم القيامة، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:١٠٥].
وبما أنهم ضعفاء لا حول لهم ولا قوة فلا داعي لأن يتكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، فإنهم مهما بلغوا من القوة فلن يكونوا كهذه الجبال التي تنسف يوم القيامة، وإذا كان هذا هو صنعنا بالجبال الراسيات، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:١٠٥ - ١٠٧]، فكيف سيكون صنعنا بهم!؟ وإذا كانت الجبال لم تكذب ربها سبحانه وتعالى حين عرضت عليها الأمانة، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:٧٢]، وكان حالها يوم القيامة أن ينسفها الله نسفاً، فكيف بمن قبل هذه الأمانة ولم يقم بها؟ وكيف بحال هؤلاء الكفار الذين استكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف سيصنع بهم يوم القيامة؟ قال سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:٨٨]، ومرورها قبل يوم القيامة، وقيل في الدنيا، على أنها يوم القيامة ستنسف وتطير من مكانها كالسحاب، ثم يذرها سبحانه وتعالى قاعاً صفصفاً: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:١٠٧]، أي: لا يرى فيها مرتفعات ولا منخفضات.
ومن بديع صنع الله عز وجل: أن هذه الجبال العظيمة القوية التي تنظر إليها وتراها راسية في مكانها، ليست ثابتة، بل حتى الأرض التي يقوم الإنسان فوقها ليست ثابتة، وإنما تتحرك في مسار معدود محدود بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى.
فالناظر يظن أن هذه الجبال الراسيات ثابتة، والحقيقة أنها متحركة بتحرك الأرض التي هي فوقها، ففي الدنيا تتحرك الجبال بتحرك الأرض، إذ أن الأرض تدور حول نفسها وتجري في مستقر لها حول الشمس، وبتحركها تحدث الأيام والشهور والسنون.
فكل شيء في الكون يتحرك كما تتحرك السحاب، وإن كنا ننظر إليها على أنها تتحرك ببطء، لكنها في الحقيقة تسير سريعاً في هذا الفضاء، وأنت لا تدري بذلك ولا تنشغل به، وهذا من بديع صنع الله سبحانه في الدنيا أن أرسى الجبال وهي متحركة كالسحاب، ويوم القيامة ينسفها ربنا سبحانه وتعالى نسفاً.
وإذا كان الله يصنع ذلك أليس قادراً على أن يعذب هؤلاء المشركين؟ وهم الذين أرادوا إخراج النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عنهم فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠].
فمن جاء بالحسنة أي: بقول لا إله إلا الله وعمل صالحاً كان في أمان من الله عز وجل يوم القيامة، وكان له الخير والجنة، ولهم الأمن يوم الفزع الأكبر، ومن أشرك بالله وعتا وأفسد في الأرض وعلا على أمر ربه سبحانه، فكبت وجوههم في النار، ويقال لهم: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:٩٠].