لقد كان صلى الله عليه وسلم يتعبد لله سبحانه وتعالى والناس في جاهلية جهلاء، وفي ظلمة ظلماء، وهو يعبد الله إله الأرض والسماء سبحانه وتعالى، كان يخرج يتحنث الليالي ذوات العدد، كما جاء في الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها، تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ به من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، إذاً: قبل أن ينزل عليه القرآن كان يرى الرؤيا وتتحقق الرؤيا كما رآها، حتى نزل عليه جبريل بالوحي من السماء، فكان صادق اللسان، صادق الحديث صلى الله عليه وسلم، أمين القلب، أميناً في معاملاته مع الخلق عليه الصلاة والسلام، فلذلك قبل رسالته عصمه الله سبحانه وتعالى، مما كان يقع في كبائر مما كان يفعله أهل الجاهلية، كما كان يقتل بعضهم بعضاً، ويأخذ بعضهم أموال بعض، ويغير القوي على الضعيف، وتغير القبائل بعضها على بعض، ويظلم الظالم ويجد من يدافع عنه في ظلمه، أما هو فلم يكن كذلك، وحاشا له صلى الله عليه وسلم.
وكان الزنا في الجاهلية شيئاً سهلاً؛ لأنهم كانوا يقعون في الزنا ولا شيء عليهم في ذلك، وهو لم يقع في ذلك أبداً صلوات الله وسلامه عليه، بل عصمه الله سبحانه وتعالى، حتى إنه وهو صغير صلى الله عليه وسلم يقول له عمه: اخلع إزارك وضعه على كتفك، وهو يحمل حجارة مع من يحملون الحجارة، رحمة من العم بابن أخيه صلوات الله وسلامه عليه، أما الكبار فكانوا يتعرون ولا شيء عندهم في ذلك، فأراد أن يفعل صلى الله عليه وسلم ما قال له عمه، فإذا بالملك ينزل عليه من السماء ويقول: خذ عليك إزارك، فإذا به يرتعد صلى الله عليه وسلم ويقع مغشياً عليه، قال: فما وضعه عنه أبداً، فقد عصمه ربه سبحانه من أن تنكشف عورته صلوات الله وسلامه عليه، حفظاً من السماء للنبي صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة رضي الله عنها:(كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) فكان يأتي حراء فيتحنث -أي: يتعبد- وذلك كان قبل الوحي، وقبل أن ينزل عليه شيء، فكان يحب أن يعبد الله سبحانه وتعالى، وكان يبغض الأصنام بغضاً شديداً صلوات الله وسلامه عليه، ولا يأكل من ذبائحهم التي ذبحوها لهذه الأصنام، فانظر إليه وهو يتعبد في الغار عليه الصلاة والسلام، ويرجع إلى خديجة، وكان قد تزوج خديجة وعمره خمس وعشرون سنة، ويذهب يتعبد لله سبحانه وتعالى، وتجهزه الفاضلة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، تجهز النبي صلى الله عليه وسلم بزاده لليالي ذوات العدد، يتعبد لله سبحانه، ويرجع إليها وتجهز زاداً آخر ليذهب ويتعبد لله سبحانه وتعالى، ومكث على ذلك ليالي كثيرة في غار حراء، هذا قبل أن يوحى إليه صلوات الله وسلامه عليه.
ومع ذلك يقول له ربه سبحانه:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}[الضحى:٧]، ويقول سبحانه:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ}[الشورى:٥٢]، وصدق الله العظيم سبحانه، إذ يقول صلى الله عليه وسلم:(أنا وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم)، وذلك لما قالت امرأة لصبي صغير توفي: هنيئاً له، عصفور من عصافير الجنة، حتى أخبره الله عز وجل بعد ست سنوات من هجرته صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه في الحديبية سورة الفتح بقوله تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:٢] فعرف قبل وفاته بأربعة أعوام ما الذي يفعل به صلوات الله وسلامه عليه، وهو قوله تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:٢].
قال له ربه:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}[الضحى:٦ - ٨].
فقوله تعالى:(ضَالًّا) أي: لا تعرف الشريعة، ولا تعرف هذا الدين، ولا تعرف أصوله ولا فروعه، صحيح أنت تعبد الله، وتجتنب الفواحش، ولكن هذا بحفظنا لك، ومنة من الله عز وجل عليه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يجهز نفسه ليكون رسولاً في يوم من الأيام، ولم يكن يجهز نفسه لشيء، فلم يطلب أن يكون سيداً على القوم ولا ملكاً لهم, لم يطلب شيئاً صلوات الله وسلامه عليه حتى أنزل الله عز وجل عليه الوحي.