للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه)]

قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} [مريم:٤٢] أي: اذكر حين قال لأبيه ذلك.

{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:٥٢] وقد كان أبوه يصنع التماثيل لقومه.

وقد كان إبراهيم عليه السلام في محن عظيمةً، وقد ابتلي بكل من حوله عليه الصلاة والسلام، فقد ابتلى في نفسه وفي أبيه وفي ابنه وفي زوجه وفي القوم الذين هم معه، ثم هاجر إلى قوم آخرين ليبتلى فيهم بلاءً عظيماً، وكل هذا البلاء في ذات الله سبحانه وتعالى، ولذلك رفعه ربنا درجةً عظيمة جداً صلوات الله وسلامه عليه، فقربه وجعله خليلاً له.

والخليل: الحبيب القريب، فهو أقرب الأحبة.

فجعله الله عز وجل له خليلاً، واتخذ محمداً خليلاً، وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين، عليهم جميعاً الصلاة والسلام.

قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} [الأنبياء:٥٢] واسم أبيه آزر، كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:٧٤ - ٧٥].

وقد كان أبو إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقومه في العراق، وبعد ذلك هاجر إلى الشام، وكان أهل العراق عباد أوثان، يعبدون التماثيل من دون الله عز وجل، وكان أهل الشام يعبدون الكواكب من دون الله، فناظرهم إبراهيم على ذلك.

وكان إبراهيم في كل موطن يصبر صبراً عظيماً، فقد صبر مع أبيه فناظره وجادله ودعاه إلى ربه سبحانه، وفي النهاية قال له أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:٤٦ - ٤٧]، فناظر أباه باللطف، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:٤٢ - ٤٥].

ففي كل دعوة يدعوه بقوله: يا أبت، تحنناً وتقرباً لأبيه وتلطفاً معه، لعل أباه يستجيب، فما كان من الأب إلا أن نهره؛ لأنه صانع التماثيل لقومه، فلما يئس منه إبراهيم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:٤٧] وتركه، وقال: لن أتركك من دعوتي، وسأدعو ربي سبحانه تبارك وتعالى لعله يستجيب لي، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:٤٧]، أي: مكرماً لي، فلعله يستجيب لي.

ودعا قومه إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:٥٢] والتمثال: اسم موضوع لما مثل، وهو الذي يصنعه الإنسان على هيئة الشيء ومثاله، فيقال: مثلت الشيء بمعنى: أني مثلته بشيء آخر، وجعلته مثله، فكانوا يصنعون التماثيل، ويعبدونها من دون الله سبحانه، وكانت هذه التماثيل على هيئة أشخاص.

<<  <  ج:
ص:  >  >>