تفسير قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد: قال الله عز وجل في وسورة القصص: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:٨٣ - ٨٨].
هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة يخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن الدار الآخرة، وكيف أنه يجعلها لمن لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً، وأن العاقبة الحسنة والجنة العظيمة لمن اتقى الله سبحانه وتعالى.
والمناسبة من هذه الآيات أن قبلها قصة فرعون، فذكر الله عز وجل أنه علا في الأرض، واستكبر على من معه فقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا} [القصص:٤]، كذلك تشبه به قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم، فعلا فرعون وهامان وقارون، فالله عز وجل يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا} [القصص:٨٣] أي: لا يطلبون العلو ولا الاستكبار، فأرانا عاقبة الظالمين.
فما الذي صنعه فرعون وهامان وجنودهما؟ قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:٨]، كانوا أصحاب خطيئة، كفروا بالله تبارك وتعالى، وتظاهروا في كفرهم على نبيهم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأرانا الله عز وجل كيف أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأهلكهم وأغرقهم، وجعلهم عبرة وآية للناس، فهؤلاء استكبروا بملكهم ووزاراتهم وجنودهم، وهذا قارون كان من قوم مستضعفين في الأرض، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:٥ - ٦].
ولكن قارون كان من قوم موسى فتعجل البغي والعلو، ولم ينتظر وعد الله وهو الذي كان يقرأ التوراة ويجيد تلاوتها، ولكن الكبر كان في القلب، فمهما نزل من مطر على أرض كانت غير صالحة، أو كانت الأرض صالحة والبذور التي فيها غير طيبة، فإنها تنبت نباتاً غير حسن، والأرض الطيبة يخرج نباتها بإذن ربها، {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:٥٨].
فهذا الإنسان كان خبيثاً في نفسه، فيه علو وكبر في قلبه، فضحه الله وكشف ما فيه وأظهره، فابتلاه بالمال كما ابتلى فرعون بالملك، وابتلى هامان بالوزارة، ففتح عليه من نعمة المال الكثير، فإذا به لا يراعي حق الله سبحانه وتعالى في ماله، وتشبه بفرعون في علوه وفساده، وكاد للنبي موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإذا بالله عز وجل يجعله آية للناس حتى يعتبروا، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:٨١].
فالله عز وجل أخبر عن الأمم السابقة فقال: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:٤٠] إلى أن قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:٤٠]، فهذان الاثنان هما المذكوران في هذه السورة، ذكرهما الله عز وجل بالتفصيل.
عقب الله عز وجل هذه الآيات في نهاية قصة قارون كيف أن المستضعفين الذين تمنوا مكان قارون وماله رأوا آية بأعينهم: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:٨٢].
فتعجبوا من أمر أنفسهم لتهورهم في أمانيهم، حيث تمنوا أن يكون لهم مثل قارون، فالإنسان يربع على نفسه، ولا يترك لنفسه هواها وعنانها فيتفكر فيما يشاء، ويتمنى ما يشاء، فإذا نظر إلى أهل الفساد لا يتمنى ما مع أهل الفساد؛ لأن العاقبة السيئة على هؤلاء تكون في الدنيا بالخزي، وفي الآخرة بالعذاب العظيم.
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:٨٣]، روى الإمام البخاري في صحيحه: (أن امرأة كانت تحمل رضيعها على يدها، فمر بها إنسان ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فإذا بالله ينطق الغلام ويقول: اللهم لا تجعلني مثله، فتتعجب المرأة، ثم يمر أناس بامرأة يضربونها ويقولون: سرقت، وهي تقسم أنها لم تفعل، فتقول: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فيقول: اللهم اجعلني مثلها).
مر هذا الإنسان العظيم صاحب المنصب فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، وهو يمص ثديها، فتركه وقال: اللهم لا تجعلني مثله، لأن هذا الرجل العظيم من المتكبرين ونهايته إلى النار، وهذه المرأة مظلومة، يقولون لها: سرقت ولم تسرق، زنيت ولم تزن، فهي مظلومة فقيرة، فلها عند الله الجنة، فقال: اللهم اجعلني مثلها.
فهذا صبي أنطقه الله عز وجل ليري العباد كيف يكون الأمر، فليس كل شيء تراه تفرح به، فإنه قد يضرك في الدنيا العاجلة، ويضرك في الآخرة أكثر، فالمؤمن يرضى ولا يصرف بصره إلى ما متع الله عز وجل به الناس، فيحسد الغير ويكمد نفسه، فهو يرى نفسه مظلوماً، فهذه آخرة الظالمين، فاعتبر هؤلاء وقالوا: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:٨٢].
لولا أن من الله عز وجل على هؤلاء المؤمنين لخسف بهم، وهذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة باقي القراء: (لخُسِف بنا)، أي: لفُعل بنا كما فعل بهذا الإنسان: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:٨٢]، الشأن أنه لا يفلح الكافرون، أو أنهم يتندمون على ذلك ويتوجعون لأنفسهم فيما تمنوه.
فيختم الله عز وجل بهذه الآية العبرة، ويجمع هذا كله في القصة كلها، والآن خذوا هذه الموعظة، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:٨٣]، هذه الدار العظيمة في الآخرة وهي الجنة نجعلها للذين لا يريدون علواً -استكباراً- في الأرض، ولا فساداً، لا يريدون أن يكونوا ملوكاً أو وزراء أو رؤساء، لا يريدون أن يكونوا أصحاب غنى فاحش، ولكن يرضون في الدنيا بالقليل كما رضي النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكنياً، واحشرني في زمرة المساكين)، صلوات الله وسلامه عليه.
قال: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:٨٣]، ليسوا من المفسدين بترفهم، وليسوا من المفسدين بخطيئاتهم وأفعالهم القبيحة، {وَالْعَاقِبَةُ} [القصص:٨٣] يعني: الحسنة بالجنة، {لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣].