[تفسير قوله تعالى: (فأخرجناهم من جنات وعيون كذلك وأورثناها بني إسرائيل)]
قال الله سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:٥٧ - ٥٩].
وانظر إلى جمال القرآن حيث يقول الله: فأخرجنا فرعون ومن معه ((مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)) * ((وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ)) * ((كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ))، فالنتيجة: نصرة بني إسرائيل، ولكن الذي حدث أنه فصل هذا النص بعد ذلك سبحانه، فقال: ((فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)) قراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو وهشام وحفص عن عاصم وقراءة يعقوب وخلف (وعُيون) بضم العين، وباقي القراء يقرءونها (وعِيون) مثل (بُيوت) و (بِيوت).
قال: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} يعني: مصر، فقد كانت مليئة بالبساتين، والله عز وجل جعل فيها هذا النيل العظيم من فضله سبحانه، ونهر النيل ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، وقد جاء في ذلك عدة أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم منها ما رواه البخاري ومسلم من حديث مالك بن صعصعه أن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المعراج قال: (ورفعت لي سدرة المنتهى نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنه آذان الفيلة) وهذه شجرة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حجمها فقال: بنبقها، أي: الثمرة كأنه قلال هجر، وهو مكان وموضع كان مشهوراً بصنع القلال العظيمة التي لا يقدر الرجل على حملها إلا بالكاد لثقلها.
ثم يقول لنا هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (في أصلها أربعة أنهار -في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار- نهران باطنان ونهران ظاهران، فسأل جبريل فقال: أما الباطنان ففي الجنة) نهران يمدان هذه الشجرة من الجنة (وأما الظاهران فالنيل والفرات) فيها نهر عظيم قدر نهر النيل ونهر الفرات، واليهود يحاولون أن يأخذوا النهرين: النيل والفرات، فيقولون: دولة اليهود من النيل إلى الفرات، فهم يعرفون أنها أنهار مباركة من عند رب العالمين سبحانه، وذكْر القصة في حديث صلى الله عليه وسلم.
فالله عز وجل قال: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} [الشعراء:٥٧] أي: بساتين عظيمة {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:٥٨] فهذه البلاد فيها الخيرات دائماً، ولكنها من أيام الفراعنة ينهبها الفراعنة ويأخذون الذهب، ويسرقون ما فيها من الخيرات، وما زال فيها خير حتى الآن، وانظر في سورة يوسف لما قال لملك مصر: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:٥٥] فهو جعل مصر خزائن الدنيا.
فهنا ربنا سبحانه يذكرنا بأن فيها الجنات والعيون والكنوز والزروع والمقام الكريم، وأهل التاريخ يذكرون عن هذه البلدة أنها كانت طوال عمرها فيها الجنات العظيمة، وعمرو بن العاص لما جاء إلى مصر ومعه ابنه عبد الله بن عمرو، يذكر أن الجنات كانت بحافتي النيل في الشقتين جميعاً من أسوان إلى الرشيد، ويذكر القرطبي أن بين هذه الجنات زروعاً فيها، قال: والنيل سبعة خلجان: خليج الإسكندرية -وهذا من أيام القرطبي - وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى، وهي متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، أي: أنها جنات حول نهر النيل من أقصى البلاد إلى أدنى البلاد قال وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعاً بما دبروا وقدروا من قناطرها وجسورها وخلجانها، ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشرة ذراعاً نيل السلطان، يعني: فإنهم يحسبون ارتفاع النيل بالذراع دائماً، فإذا وصل ارتفاع النيل إلى ستة عشر ذراعاً قالوا: إن السلطان سيفرض جباية؛ لأن الخير سيأتي كثيراً، هذا كلام القرطبي رحمه الله، وقال: وكانت أرض مصر جميعاً تروى من إصبع واحدة من سبعة عشر ذراعاً، يعني هذه الإصبع تروي أرض مصر كلها، هذا كلام القرطبي، وكان إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعاً وزيد عليه أصبع واحد من ثمانية عشرة ذراعاً، ازداد في خراجها ألف ألف دينار، فهذا الذي يذهب إلى السلطان، فهذه من خيرات مصر وبركاتها، هذا كلام الإمام القرطبي، وذكر نحو هذا بعض العلماء.
فنهر النيل من عجائب الدنيا، وذلك أنه يزيد إذا انصبت الأمطار في جميع الأرض حتى يسيح إلى جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب، وهذا كان يحدث في الماضي، فكان نهر النيل يفيض فيملأ البلاد كلها، وكل خيراته توزع على البلاد، وكان الناس أحياناً من ارتفاع النهر يتواصلون من مكان إلى مكان عن طريق القوارب ونحوها.
يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: نيل مصر سيد الأنهار.
أي: أفضل أنهار الدنيا، وهذا النهر العظيم قال عنه قيس بن الحجاج: لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له: يا أيها الأمير! إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، قال: وما هي؟ قالوا: إذا خلت اثنتي عشرة ليلة من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر وأرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، وتسمى عروس النيل، ثم نرمي بها في النيل.
وهذا من جهلهم عندما يفعلون ذلك، قال: فقال لهم عمرو رضي الله عنه: هذا لا يحل في الإسلام، فتركوا العادة فإذا بالنهر لا يجري لا كثير ولا قليل، حتى هموا بالهجرة من هذا المكان، واستمر على هذا مدة ثلاثة شهور، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص وأن الناس سيهاجرون ويتركوا المكان أرسل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله عن ذلك، فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت، إن هذا حرام لا يحل، وإن الإسلام يهدم ما قبله، ولا يكون هذا، وبعث إليه ببطاقة في داخلها كتابة منه وأمرهم أن يرموها في نهر النيل، وكان عمر محدثاً ملهماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما جاءت البطاقة إلى عمرو إذا فيها مكتوب: من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجري، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك، فألقى البطاقة في النيل قبل عيد الصليب بيوم، وفيها بيان كرامة من الكرامات وآية من الآيات، فالله الواحد سبحانه هو القادر على ذلك، وليس لأحد من الخلق أن يفعل ذلك، قال: وقد تهيأ أهل مصر للجلاء، أي: كانوا جاهزين للارتحال من البلد والخروج منها؛ لأنهم لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة في النيل أصبح يوم الصليب وقد أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشرة ذراعاً، يعني: أصبحوا في يوم عيدهم وقد جاءت آية من الآيات تبين أن الله سبحانه وحده لا شريك له هو الذي يجري النهر، فأجراه الله آية من الآيات سبحانه، وقطع الله تلك العادة عن أهل مصر من تلك السنة، قطعها بسيدنا عمر رضي الله عنه، فالله عز وجل أزال هذا الشرك، ودخل أقباط مصر في دين الإسلام لما رأوا من آيات توحيد رب العالمين سبحانه، والآن أصبحوا يعملون بعض الأشياء الموروثة من الفراعنة، فيصنعون قلادة وحروز وتمائم ويكتبون عليها شركيات ثم يرمونها في النهر ويقولون: هذا فيه بركة، فبعدما نجى الله هذا البلد من هذا الشرك، ومن هذه البلادة والغباوة التي كانوا يعتمدون فيها على الخلق دون الخالق سبحانه فإنهم يريدون أن يرجعوا إليها مرة ثانية.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ على المسلمين دينهم، وأن يعيدهم إلى سنة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وإلى توحيد ربهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.