[تفسير قوله تعالى:(قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون)]
فقال يجادلهم:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}[الصافات:٩٥] أي: أتعبدون هذه الأصنام التي نجرتموها وصنعتموها من الخشب، ومن الحديد، ومن الحجارة؟! فقوله تعالى:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}، أي: ألا تعجبون من أنفسكم قد صنعتم الأصنام ثم عبدتموها من دون الله! قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:٩٦] أي: هل نسيتم الله سبحانه الذي خلقكم وما تعملون؟ فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى، خلق العباد، وخلق أفعال العباد سبحانه وتعالى، (وما) هنا فيها معنيان: إما أن تكون موصولة، وإما أن تكون مصدرية، وكلاهما صحيح (ما) موصولة بمعنى: والله خلقكم والذي تعملون.
إذاً: أنتم صنعتم هذه الأصنام من حجارة ومن نحاس وحديد ومن خشب، والله هو الذي خلق الحجارة والنحاس والحديد والخشب، فكيف تتركون الله الذي خلقكم، وخلق هذه الأشياء وتعبدون هذه المخلوقات؟! أين ذهبت عقولكم؟! وإذا كانت (ما) على المعنى الثاني، أي: مصدرية يعني: خلقكم وأعمالكم.
إذاً: الله خالق العباد وأفعالهم، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وكل شيء خلقه الله، والعبد يكتسب فعله ولا يخلقه، ولكن الخالق الله، والعبد اكتسب هذه الأفعال، ويجازى العباد على ما اكتسبوا من خير أو شر، فهم اختاروا، واكتسبوا، وفعلوا، والله يجازيهم على كسبهم وعلى اختيارهم.
ولما وجد إبراهيم أنهم يريدون أن يعقلوا ذكر الله سبحانه أن إبراهيم:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}[الأنبياء:٦٣] أي: اسألوا هذا الكبير، فهو الذي كسرها، وهذه واحدة من الكذبات الثلاث التي كذبها إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكانت في ذات الله، وكان حقيقتها التعريض في الكلام.
وقوله تعالى:{إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}[الأنبياء:٦٣] فيه تعليق الشيء على المستحيل مثل قولك: إن كنت أطير أصعد إلى السماء، وأنت تعلم أنك لا تطير فمستحيل أن تصعد إلى السماء.
فكذلك هؤلاء يقول لهم إبراهيم: إن كان هؤلاء ينطقون فهذا الكبير هو الذي صنع بهم ذلك، وهم يعلمون يقيناً أنهم لا ينطقون، إذاً: لم يصنع الكبير شيئاً.
قال تعالى:{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}[الأنبياء:٦٤ - ٦٥]، إذاً: أين عقول هؤلاء القوم وهم يجادلون؟ {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ}، لم يرجعوا إلى عقولهم، بل رجع يلوم بعضهم بعضاً، ويقولون: نحن مخطئون، لماذا لم نجعل أحداً منا يحرس الأصنام؟! وإذا كانت تحتاج لمن يحرسها لا تصلح أن تكون آلهة، فقالوا ذلك، {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}[الأنبياء:٦٤]، حيث لم تحرسوا أصنامكم، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ}[الأنبياء:٦٥]، دون أن يفكروا في هذا الذي يقولونه، فهذه أصنام تحتاج لمن يحرسها فلا تصلح أن تكون آلهة، ورجعوا على أعقابهم، وانقلبوا على رءوسهم بغباء وقالوا لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: سنكيد لك مثل ما كدت لأصنامنا، قال تعالى:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}[الصافات:٩٧]، ورجعوا إلى أنفسهم وقالوا لإبراهيم:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}[الأنبياء:٦٥]، {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:٩٥ - ٩٦].