[تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة)]
قال الله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:١٦] كثيراً ما يذكر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ببني إسرائيل، وهم القوم الذين أوتوا كتاب التوراة من قبلنا وهو كتاب شريعة كما أوتينا هذا القرآن العظيم.
فالله عز وجل يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هنا ببني إسرائيل، وإسرائيل لقب ليعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والمعنى واذكر أبناء يعقوب الذين آتيناهم الكتاب الحكم النبوة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:١٦] هذه نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، فقد آتاهم الله كل هذه النعم، فاجتباهم وجعل منهم أنبياء وفضلهم على الخلق سبحانه، كما قال: ((وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ))، ولكن مع ذلك استوجب أكثرهم نقمة الله وعذابه؛ لأن الإنسان الذي يسيء لا ينفعه أن الله قد أنعم عليه وأعطاه في الدنيا ما أعطاه، بل لا بد أن يجازيه على إساءته.
ولذلك يخبر الله عز وجل عن النعم التي أنعم بها عليهم، وكأنه يقول: قيسوا أنفسكم عليهم فقد آتاكم الله عز وجل نعماً كثيرة، فإذا ظننتم أن هذه النعم لفضلكم، وأنكم أهل الخير الذين تستحقون الجنة ولو بغير عمل فهذا هو الغرور، الذي تستحقون به العقوبة كما استحقها بنو إسرائيل، وإذا أخذتم ما آتاكم الله عز وجل بقوة كما أخذ الصالحون من قبلكم فسوف تستحقون ثواب الله عز وجل وجنته.
فالله عز وجل آتى بني إسرائيل الكتاب الذي هو التوراة، والحكم بها، وقد يكون الحكم بمعنى الفصل ومعرفة القضاء بين الخلق، وقد يكون بمعنى الفقه في الدين، وقد يكون بمعنى الحكمة، وهذه هبة من الله عز وجل، فأعطى من يشاء منهم ذلك.
وقوله تعالى: ((وَالنُّبُوَّةَ)) أي: جعلنا فيهم أنبياء، وبهذه الصفة فضل الله عز جل بني إسرائيل على العالمين لا لكونهم أهلاً لذلك، بل إن تفضيلهم هو أنه جعل لهم أنبياء تسوسهم، وتدعوهم إلى الهداية، وفي الآية إشارة إلى خبثهم؛ لأنهم كذبوا الأنبياء فكان يرسل إليهم نبي بين الفينة والأخرى.
فالله عز وجل من عليهم برئيس يحكمهم الحكم المدني، ونبي يحكمهم بشرع الله سبحانه وتعالى، فالرئيس تكون له الجيوش والحكم بين الناس، والنبي يقوم بالتوجيه والإرشاد، كان ذلك من الله عز وجل رعاية لهم؛ لأنه يعلم ما في نفوسهم من الخبث، والشر والارتداد عن الدين، فلم يعرفوا الله سبحانه، وقد دعاهم موسى إلى ربهم، وعرفهم به وبين لهم الطريق المستقيم، وبعد أن أنعم عليهم وأنجاهم من فرعون وخرجوا من البحر وجدوا قوماً يعبدون أصناماً فقالوا لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:١٣٨]، فقال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:١٣٨ - ١٣٩] فالله عز وجل أنجاهم من الإهلاك ومن فرعون وقومه، وهم يريدون أن يهلكوا كما أهلك الله عز وجل هؤلاء، فأبوا إلا أن يعبدوا العجل من دون الله، فإذا بالله ينتصر لنفسه وينتقم منهم، ويأمر موسى أن يأمرهم بأن يقوم بعضهم بقتل البعض الآخر بالسيوف، فقتل في غداة واحدة سبعون ألفاً من هؤلاء المجرمين الذين عبدوا غير الله سبحانه وتعالى.
فكان الانتقام حالاً، وهؤلاء لا يصلح معهم إلا ذلك، ويوم القيامة سوف يحاسبهم الله على ما قدموا، وسوف ينظروا بأعينهم العذاب، وكأن الله عز وجل يشير للمؤمنين بأن هؤلاء اليهود لا يصلح معهم إلا السيف، فلا تنفع معهم المعاهدات حتى يسمعوا كلام الله ويطيعوه.
فلما عبدوا العجل من دون الله أخبرهم الله سبحانه بأنهم إذا أرادوا أن يتوبوا فعليهم أن يقتل بعضهم بعضاً، فقال الله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:٥٤] أي: هو هذا الأخير لكم والأفضل، فقام بعضهم إلى بعض، وألقى الله عليهم ظلمة، وكل منهم يضرب الآخر بالسيف ولا يدري من يضرب، حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فجأر موسى إلى ربه: يا رب أهلكت عبادك، فإذا بالله يعفو عنهم بعد هذه المقتلة.
فبنو إسرائيل لا يصلح معهم الكلام، وإلا لنفع كلام موسى معهم عليه الصلاة والسلام، ولما قال لهم: ادخلوا الباب سجداً امتنعوا عن ذلك، فقيل لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة، فقالوا: لا نريد ذلك، ولما رفع فوقهم الجبل بادروا إلى التوبة، ثم لما كشفه عنهم عادوا إلى ظلمهم! فأخبر الله سبحانه أنه فضلهم على العالمين، وأرسل إليهم الأنبياء فكان جوابهم أن كفروا بالله سبحانه، وكذبوا أنبياءهم.
وهذا تفضيل من الله عز وجل ورعاية لشأن هؤلاء لعلهم يتوبون، فلم يستجب منهم ويتبع الأنبياء إلا القليل.
فذكر الله المؤمنين بحالهم وقال: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)) أي: جعلنا فيهم أنبياء، ((وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) أي: أعطيناهم من كل الطيبات، وأنزلنا عليهم المن والسلوى، وفتحنا لهم من بركات من السماء، وجعلناهم يذهبون إلى ديار الشام أرض البركة، فجعلنا لهم فيها معايش، وجعلنا لهم فيها ملكاً وفضلاً عظيماً.
قال تعالى: ((وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)) إما على عالمي زمانهم، أو على العالمين بأن جعل فيهم أنبياء كثيرين، فالأمة الوحيدة التي فيها أنبياء كثيرون هم بنو إسرائيل، وهذا تفضيل من الله عز وجل حتى يظلوا على الطريق المستقيم وهو فضل يستحق بسببه أن يشكر سبحانه، كيف وباقي النعم منه سبحانه وتعالى عليهم، فما استوجبوا إلا مقت الله بسبب ارتدادهم وبعدهم عن الدين!