تفسير قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون)
قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٢٩].
وقد قال قبل ذلك: ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ))، فكأن هذا توطئة لما يذكره هنا، وتقدمة لما يذكره هنا، فهذا مثل من الأمثال.
فقوله: ((رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ)).
الرجل هنا عبد يملكه مجموعة من الناس، فالعبد الذي يملكه رجل واحد هل يستوي مع عبد يملكه مجموعة من الناس؟ فتفكروا في ذلك، فإن الله عز وجل يقول: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ))، والمشاكسة: صعوبة الخلق، واختلاف التضاد، والإنسان الذي يريد الخلاف يسمى مشاكساً، وإنسان شكس أي: يحب الخلاف.
فلو أن مجموعة أخلاقهم صعبة ومختلفة، وبعضهم ينقض بعضاً، ويكيد لبعض ملكوا عبداً واحداً فإن هذا يقول له: اعمل كذا، والثاني يقول له: لا لا تعمل هذا الشيء، وإنما اعمل كذا، ويقول الثالث: لا اذهب إلى المكان الفلاني الآن.
فيبقى هذا العبد متحيراً متخبطاً، أيسمع كلام هذا أو يسمع كلام هذا؟ فكلهم يملكونه! فهو محتار ينفذ كلام مَنْ مِن هؤلاء المتشاكسين؟! ((وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)) أي: يملكه رجل واحد، والقراءة الأخرى: ((سالماً لرجل))، يعني: عند واحد يسلم به هذا الواحد ويسلم نفسه إليه، وخالص لهذا الواحد.
والمعنى على القراءتين: ((رجلاً سالماً لرجل))، ((ورجلاً سلماً لرجل)) أنه خالص لواحد يملكه، فهذا الواحد إذا رآه متعباً أراحه، ثم استعمله بعد ذلك.
وأما الشركاء المتشاكسون فلا يهمهم تعبه، وإنما يهمهم أن ينفذ الذي يريدونه؛ لأن لكل أحد حصة فيه، فهل يستوي هذا مع هذا؟ لا، فالذي يملكه رجل واحد مستريح؛ لأنه لا تضاد في الكلام، ولا توجد صعوبة في الأخلاق، فهو واحد يملكه واحد، وأما من يملكه مجموعة فإنه يكون متحيراً مضطرباً لا يعرف كيف يتصرف مع هؤلاء.
ولله عز وجل المثل الأعلى، فهل هذا الإنسان الذي يعبد الله وحده لا شريك له يستوي مع من يجري به هواه فيعبد الشياطين والأصنام، ويعبد آلهة من دون الله؟ لا، وإنما هذا مضطرب متحير، لا يعرف ما الذي يريده، فيذهب إلى سدنة الأصنام، فهذا يقول له: اعمل كذا، وهذا يقول له: اعمل كذا، وهذه الأصنام هم الذين خلقوها بأيديهم وصنعوها.
فهل يستوي من يعبد الله مع من يعبد هذه الأصنام، ويعبد خلق الله سبحانه تبارك وتعالى؟ لا يستوون.
فالذي يعبد الله قد استراح، وعرف ربه سبحانه، وعرف ما الذي يريده الله عز وجل منه، فمشى في طريق الله سبحانه.
وأما الذي يعبد أصناماً وأنداداً من دون الله سبحانه فهو متحير متخبط، فهو يعبد هذا الصنم الآن، ثم يعبد غيره، عندما يجده لا ينفعه؛ لأن الشياطين والسدنة تتلاعب بهذا الإنسان، فهذا يأمره بشيء، وهذا يأمره بشيء، وهذا يأمره بشيء، فهو مضطرب متحير، فلا يدري أهذا الإله أفضل أم هذا أفضل؟ فإذا كان في الحضر عبد صنماً، وإذا كان مسافراً صنع صنماً آخر يعبده في سفره، فإذا رجع إلى الحضر رمى الصنم الذي كان يعبده في السفر وعبد الآخر! فهو متحير مضطرب لا يدري أين الحق، فهل يستوي هذا مع هذا الذي عبد الله وحده لا شريك له؟ يقول الله سبحانه وتعالى: ((هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ)) أي: احمدوا ربكم على توفيقه لكم، وعلى أن أرشدكم وهداكم أن تعبدوه وحده لا شريك له كما قال تعالى: ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ))، فيطمئن قلب المؤمن لأنه عبد الله وحده لا شريك له، فالله الذي خلق كل شيء هو الذي يستحق العبادة وحده، والمؤمن يستشعر أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فيستشعر الله الكبير، الله العظيم، الله الجليل، الله الرحيم، فيعبد ربه؛ لأنه يستحق العبادة وحده.
وأما الكافر فقلبه متحير مضطرب، لا يعرف أين الحق والصواب؟ وهو يعرف أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك يعبدها! فإذا سئل: لماذا تعبدها وهي لا تنفع ولا تضر؟! لم يكن له حجة إلا أن يقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٢٢]، ومستحيل أن يكون آباؤنا يعملون شيئاً خطئاً! فهو يمشي على ما كانوا يمشون عليه، وهو مضطرب متحير لا يعرف أين الحق والصواب! قد أضله الله سبحانه تبارك وتعالى.
فيا أيها المؤمن! احمد الله، واثن على ربك الثناء الحسن الذي يستحقه سبحانه، على أن هداك ودلك على طريقه سبحانه وعلى طريق جنته.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ} [الزمر:٢٩] أي: أكثر الخلق {لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٢٩]؛ ولأنهم لا يعلمون فهم يتبعون الهوى، ويتبعون الشياطين ولا يعرفون طريق الحق، حتى وإن بصروا به لم يدخل في قلوبهم نور الإيمان.