للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشراً)

لما أرانا الله عز وجل بديع قدرته في المياه المالحة والعذبة والبرزخ الذي يتوسطهما وما فيه من كائنات، أرانا من بديع ما خلقه عز وجل في الإنسان، فقال معقباً بعد ذكر الماء الذي يعد أساس الكائنات، فهذه البحار مياه وهذه الأنهار مياه، وما فيها من كائنات مخلوقة من الماء، وكذلك الإنسان الذي يعيش على البر مخلوق من الماء.

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان:٥٤] خلق الله عز وجل الإنسان من ماء، وجعل أكثر ما يتركب منه الإنسان الماء، فقوله: (خلق من الماء) أي: من نطفة من ماء مهين، فجعل من هذه النطفة إنساناً، وجعل النسب، وجعل الصهر، والمراد بالنسب: هم من ينتسب إليهم الإنسان من أقربائه، فكأن النسب الأقرباء: الأب؛ الأم؛ الأخ؛ الأخت؛ الابن؛ البنت؛ الأحفاد؛ الأجداد؛ الأعمام؛ ومن الخطأ لغة وشرعاً ما نقوله عن الأنساب أنهم أقارب الزوجة، أو أقارب الزوج، والصحيح: أنهم الأصهار، والأصهار من المصاهرة، أي: كأنهم صهار، وكأن شيئين متباعدين اختلطا فانصهر أحدهما في الآخر، ومثله ما يقع في صهر المعادن، حيث يؤتى بمعدنين ثم يذابا ويخلط أحدهما بالآخر، ومنه يعلم أن الله عز وجل قد جعل النسب شيئاً والصهر شيئاً آخر، فخلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً.

يقول العلماء: إن الصهر يعني: الذي يحل نكاحهم، وأما النسب فيعني: الذين لا يحل نكاحهم، وقالوا أيضاً: اشتقاق الصهر من صهر الشيء بمعنى: خلطه، فالناس يتزوجون بينهم فيختلط الماءان من هذا ومن ذاك، ويأتي النسب بعد ذلك من الأبناء، حيث ينسبان إلى الأب وإلى الأم.

ويقال في أقارب الزوجة: أختان، ويقال في أقارب الزوج بالنسبة للزوجة: أحماء، مفردها: حمو، فيطلق الحمو على أخي الزوج وأبيه، وما يتبعهم من أقارب الزوج، والأختان والأحماء هم الأصهار، فيدخل تحت الأصهار الأحماء ويدخل تحتها الأختان، وبذلك يُعلم أن الله عز وجل خلق الإنسان وجعل له النسب وجعل له المصاهرة، وذكر الله عز وجل المحرمات من النسب والمصاهرة والرضاعة في سورة النساء فقال: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:٢٢]، ثم ذكر المحرمات من النسب فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:٢٣]، فذكر سبعاً من النسب، ثم قال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:٢٣]، فذكر اثنين من الرضاعة، إذ هما ملحقان بالنسب، ثم ذكر بعد ذلك المصاهرة فقال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ * وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:٢٢ - ٢٣]، وذكر قبل ذلك: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:٢٢]، فذكر من المحرمات بالمصاهرة أصنافاً أربعة.

فقد جعل الله عز وجل الإنسان آية من آياته سبحانه وتعالى حيث خلقه من ماء مهين، فجعل النطفة من الرجل، وجعل من المرأة ما يتم خلق الإنسان به، وهي البويضة، ثم جعل الله عز وجل النسب والصهر من ذلك، وهذا من كمال قدرته وحكمته سبحانه، قال سبحانه: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} فعبر بكان التي تفيد المضي، ولكن في هذا الموضع تفيد: الماضي، والحاضر، والاستقبال، وهي الأداة الوحيدة التي تدل على ذلك في مثل هذا المعنى، ولذلك كثيراً ما يسند الله عز وجل صفاته إلى الفعل كان، كقوله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:٩٦]، وكان من الأزل، وهو الآن كذلك، ولا يزال كذلك إلى الأبد سبحانه، وبذلك عُلم أن كلمة كان هنا لا تفيد الماضي فقط، ولكن تفيد الاستمرارية من الماضي إلى الأمد البعيد وإلى ما لا نهاية، فقوله: (كان الله خبيراً بصيراً)، وقوله: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:٥٤]، يدلان على أنه قادر على كل شيء، ولم يزل كذلك ولا يزال كذلك، فالله قادر على أن يخلقَ وعلى أن يرزق، وعلى كل شيء سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>