ثم قال تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[فصلت:٣] هذا الكتاب العظيم هو القرآن الذي بين أيدينا وكتاب الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى:((كِتَابٌ فُصِّلَتْ)) التفصيل: التبيين، أي: البيان الواضح الجلي، فالمجمل الذي قد لا يفهمه الإنسان يحتاج إلى تبيين، فهذا القرآن يبين ما يشكل على الناس، ويفصل لهم ما يحتاجون إليه، بحيث لا يبقى عندهم إشكال ولا غموض في شرع الله سبحانه وتعالى، فهو المنزل كما قال تعالى:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:١٩٥] أي: نزل على قوم يعلمون هذا اللسان، ويعقلون اللغة العربية، ويعقلون عن ربهم ما يريده منهم، فقال:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}[فصلت:٣] أي: بينت الآيات التي فيه.
قوله:{قُرْآنًا}[فصلت:٣] أي: نزل قرآناً، وفيها قراءتان: قراءة الجمهور: ((قُرْآنًا)) بالهمزة، وقراءة ابن كثير المكي:((قُرْآنًا عَرَبِيًّا)) [فصلت:٣]، وكذلك إذا وقف عليها بالهمزة.
وقوله تعالى:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[فصلت:٣] يعني: نزل القرآن باللغة العربية، وهذا تشريف للغة العربية أن ينزل القرآن بهذه اللغة.
فجاء هذا القرآن على قوم يعلمون أن الخالق هو الله سبحانه، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، وهم يعترفون بذلك، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}[الزخرف:٩].
وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[الزخرف:٨٧].
ولئن سألتهم: لماذا لا تعبدون الله؟ أليس هو الذي خلقكم؟ ألا يستحق العبادة؟ قالوا: يستحق العبادة، ولكننا نعبد أصناماً حتى تقربنا إليه، نحن أقل شأناً من أننا نعبده مباشرة، فهذه واسطة بيننا وبين الله عز وجل حتى تقربنا، قال تعالى مبيناً قولهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر:٣] فافتروا الكذب.
ومن الذي قال لكم: اعبدوا هذه الأصنام وهي تقربكم إلى الله سبحانه؟ قال تعالى:{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:٢٨].
قوله سبحانه:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[فصلت:٣]، إذاً: يعلمون أنه خالقهم، وأنه الذي يستحق العبادة وحده، ومع ذلك أعرضوا، ويعلمون أيضاً أن هذا القرآن معجز، وأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فقد علموا ذلك، وكانوا يستمعون للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ويمشون وراءه وهو يذهب ليصلي عند الكعبة، ويقفون يتنصتون عليه في الليل؛ حتى يستمعوا إلى هذا القرآن، ويقول قائلهم وهو الوليد بن المغيرة: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة.
هذا القرآن العظيم ما هو بقول البشر، بل كلام عظيم فيه حلاوة وعليه طلاوة، هكذا يقول الوليد بن المغيرة، ومع ذلك لم يسلم هذا الرجل، فقد علموا أن هذا القرآن قرآن عظيم، وأنه معجز، وأنه ليس من قول البشر، وأنه لقوم يعلمون.